ما كان يحرّكهم معًا قوةً واحدة، تبدأ القيم بالانسحاب، وتتضخّم المكاسب، فتتعاظم الأنانية وتروج الأخلاق النفعية، وتجد كل ما يمدّها بالقدرة على تحقيق غاياتها، فيختلّ التوازن لصالح من يملك القوة والسلطة، أيًا كان مصدرهما .. كل هذا يحرّض مظاهر من الانحراف في التكوين الاجتماعي، تتجلى في تفشّي صور فساد وظلم متنوعة تُسرق فيها الجهود، وتُصادر الحقوق، وتُعطّل المصالح، وهي مع ذلك مظاهر فردية واستثنائية، لأن المصلحة - في تلك المرحلة - تظل ممسكة بعصا التوازن الذي يفرض التكامل على جميع الأطراف، ويهودهم إلى ميثاق مشترك يذعنون إليه لتحقيق مصالحهم المتبادلة.
ومع تفاقم أعراض المدنية تتكرس دواعي الظلم والفساد، ويتحولا إلى ظاهرة عامة لا تتوقف عند حدود السلطة الحاكمة بل، تعمّ مناحي الحياة كلها، أفرادًا ومؤسسات، وهنا تكمن الخطورة، لأنه إيعاز بأن الأمة تتموّت من الداخل! ليس الظلم إلا الضعف يتستّر بالجبروت ويتسلح به، وحين تدخل الحضارة طور المدنية يتسرّب الكسل والتواكل، ويستشعر صاحب القوة والقدرة ضعفه، فيحاول أن يحجبه بسياج من الانتهازية وسرقة جهود الآخرين، والحدّ من نجاحهم خشية منافستهم، ويتفشّى الظلم ويروج بالقدر الذي تتعطّل فيه الدوافع وتقلّ الفرص.
يستجرّ حديث الظلم إلى الذهن ذلك الاعتقاد بأنه خاص بالمستويين السياسي والقضائي، ولكن الواقع أن المؤسسة السياسية والإدراية تعطي مؤشرات على الفساد قبل غيرها من المؤسسات، وظهور الفساد في المؤسسة القضائية هو دليل على استشراء الداء في