سواء أكان هذا الحديث تبيانًا لمجملات القرآن أم أصلاً تشريعيًا مستقلاً بعد كتاب الله. وما من ريب في أن هذا التداخل الوثيق بين الفقه والحديث قد قارب بين خطواتها في طريق التطور، وقارن بين مراحلهما المتعاقبة في سبيل النماء، فما أرسيت أصول الفقه إلا بعد أن وضعت اللبنة الأولى في بناء «علوم الحديث».
وبعد أن مر الحديث والفقه بطور التمهيد والتحضير، اتسع البحث فيهما وتنوع، ودارت حولهما المدارس الفكرية تنتصر للمأثور تارة وللرأي تارة أخرى، فنضجا مَعًا واحترقا مَعًا، وظلت الرابطة وثيقة بينهما لتماثلهما في النشأة الأولى، وتشابههما في خطاهما الكبرى، واستمرار تلاقيهما في خدمة التشريع، وتعبيد الطريق للتحقيق والتدقيق فإن نُرِدْ الآن تسميتهما باسم واحد لا نجد أدق في الدلالة عليهما من لقب (علم الحديث)، وكأنا حينئذٍ نستغني بأحدهما عن الآخر إيماء إلى مكانة الحديث خاصة في مسائل الفقه جميعًا، فلولا الحديث لما كان الفقه عِلْمًا مَذْكُورًا.
إن العلم الذي نضج ثم احترق إذن - من كثرة التصنيف فيه - هو علم الحديث أو «فقه الحديث»، وإن العلوم الأخرى- سواء أنضجت ولم تحترق كأصول النحو أم لم تنضج ولم تحترق كمناهج التفسير- قد تأثرت تأثرًا يتفاوت قوة وضعفًا، واتساعًا وعمقًا، بما وضعه نقاد الحديث من مقاييس، وَأَرْسَوْهُ من قواعد وأصول. ولئن نشأ الفقه في ظل الحديث ثم أضحى جزءًا لا يتجزأ من كله الكبير، فقد وجد التفسير أيضًا طريقه في رحاب الحديث حين عَوَّلَ المفسرون على السنة النبوية في تأويل كتاب الله، وظل التفسير بعد ذلك - كالفقه - جزءًا