قال البغدادي: «حَدَّثَنِي فُلاَنٌ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ» وأراد نهر دجلة (?)، أوقال: «بِالرِقَّةِ» وأراد بستانًا على شاطئ دجلة، أو قال الدمشقي: «حَدَّثَنِي بِالكَرْكِ» وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق، ففي ذلك كله إيهام الرحلة في طلب الحديث. والحافظ ابن حجر يطلق على هذا التمويه اسم «تدليس البلاد»، ويلحقه بـ «تدليس الشيوخ» (?).
وكان بعض المدلسين من أئمة الحديث يجدون في التدليس متعة نفسية، فلا يحلو لهم الدعابة إلا بهذا الضرب من الرواية المبهمة يخوضون فيه متساهلين ثم يندمون ويتوبون، قيل لِهُشَيْمٍ بْنِ بَشِيرٍ (?): مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ يَعْنِي التَّدْلِيسَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ!» (?). واجتمع نفر من أصحاب هُشيم هذا يومًا على أَلاَّ يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره: «حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ , وَمُغِيرَةُ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ»، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمُ الْيَوْمَ؟» فَقَالُوا: لاَ، فَقَالَ: «لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مُغِيرَةَ حَرْفًا مِمَّا ذَكَرْتُهُ، إِنَّمَا قُلْتُ: «حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ» غَيْرُ مَسْمُوعٍ لِي! (?).