الرسول بينهم وتيسر رجوعهم إليه فيما يعرض لهم، لم يسوغ واحد منهم لنفسه أن يفتي باجتهاده في حادثه، أو يقضي باجتهاده في خصومة، بل كانوا إذا عرضت الحادثة أو شجر الخلاف أو خطر السؤال أو الاستفتاء رجعوا إلى الرسول هو يفتيهم ويفصل في خصوماتهم، ويجيب عن أسئلتهم تارة بآية أو آيات قرانية يوحي إليه بها ربه، وتارة باجتهاده الذي يعتمد فيه على إلهام الله له، أو على ما يهديه إليه عقلة وبحثه وتقديره، وكل ما صدر عنه من هذه الأحكام هو تشريع للمسلمين، وقانون واجب عليهم أن يتبعوه سواء أكانت من وحي الله أم من اجتهاده نفسه.
وقد ورد أن بعض الصحابة اجتهد في عهد الرسول، وقضى باجتهاده في بعض الخصومات، أو استنبط باجتهاده حكمًا في بعض الوقائع مثل: علي بن أبي طالب، الذي بعثه الرسول إلى اليمن قاضيًا وقال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"، ومثل معاذ بن جبل الذي بعثه الرسول إلى اليمن وقال له: "بم تقضي إذا عرض لك قضاء ولم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما تقضي به"؟ فقال معاذ: أجتهد رأيي. فقال الرسول: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لم يرضي الله ورسوله".
ومثل حذيفة بن اليمان الذي أرسله الرسول للقضاء بين جارين اختصما في جدار بينهما، وادعى كل منهما أنه له، وعمرو بن العاص الذي قال له الرسول يوما: "احكم في هذه القضية"، فقال عمرو: أجتهد وأنت حاضر، قال: "نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر"، والصحابيين اللذين خرجا في سفر وحضرتهما الصلاة، ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فأداه اجتهاده إلى أن يتوضأ، ويعيد الصلاة وأما الثاني فأداه اجتهاده إلى أن صلاته الأولى أجزأته، ولا إعادة عليه ولم يعدها.
ولكن هذه الجزئيات وأمثالها لا تدل على أن أحدًا غير الرسول كانت له سلطة التشريع في عهد الرسول؛ لأن هذه الجزئيات منها ما صدر في حالات خاصة تعذر فيها الرجوع إلى الرسول لبعد المسافة أو خوف فوات الفرصة، ومنها ما كان القضاء أو الإفتاء فيه تطبيقًا لا تشريعًا وكل ما صدر فيها من أي صحابي عن اجتهاده في أي قضاء أو أية واقعة لم يكن تشريعا للمسلمين، وقانونًا ملزمًا لهم