حكم الإقامة في بلاد الكفار فيها تفصيل؛ فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقيم عندهم، ويرضى ما هم عليه من الكفر، ويعاونهم على المسلمين، فهذا كافر، قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)، وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: من نشأ في بلاد الأعاجم فصنع نوروزهم -يعني: اشترك في احتفالاتهم ومهرجانهم- وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور.
فمن رضي بما هم عليه من الكفر، وانشغل بمدحهم وعيب المسلمين، وعاونهم على المسلمين فهذا كافر مرتد بهذا الفعل وهذه الموالاة.
القسم الثاني: أن يكون همه لأجل مصلحة دنيوية من مال أو ولد أو بلاد وهو لا يظهر دينه مع قدرته على الهجرة، ولا يعينهم على المسلمين بنفس ولا مال ولا لسان، ولا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، فهذا لا يكفره العلماء لمجرد جلوسه ومكثه بين أظهرهم، ولكن يقولون: إن هذا قد عصى الله ورسوله بترك الهجرة، وإن كان مع ذلك يبغضهم في الباطن؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ظالمي أنفسهم) أي: بترك الهجرة، ثم قال: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية.
وتجد العلماء لهم كلام شديد جداً يصل إلى التكفير في حق من يتجنس بجنسية هذه البلاد، وبعض الناس لغفلتهم عن الولاء والبراء، وعن العمل بلوازم لا إله إلا الله يأخذ جنسية بعض هذه البلاد الكافرة، ويعتبره مكسباً، وهو يدفع لقاء ذلك ثمناً من دينه، والإنسان إذا تجنس بهذه الجنسيات إذا لم يجند هو في جيوش هذه البلاد فأولاده سيصبحون من هذه البلاد، ويدخلون جيوشهم، ولابد أن يشتركوا معهم في حربهم إذا حاربوا المسلمين، ويصبحون يعاملون كأي مواطن من تلك البلاد، له حقوق وعليه واجبات تجاه هذه الدولة الكافرة، فلا ينبغي التساهل في أمر أخذ الجنسيات؛ لأن العلماء لهم كلام شديد يصل إلى تكفير من يتجنس بجنسيات هذه البلاد الكافرة.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين، يعني: أن بعض المسلمين ممن كانوا قادرين على الهجرة من مكة إلى المدينة بقوا في مكة وهم قادرون على الهجرة، فكان المشركون يظنون أنهم مثلهم من الكفار، فحينما خرجوا لمقاتلة المسلمين كانوا يخرجونهم معهم؛ لأنهم في الظاهر مع المشركين! يقول ابن عباس: إن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97] بأنهم لم يهاجروا.
وقد سد الله سبحانه وتعالى باب الأعذار الواهية، فأي إنسان يعتذر عن الهجرة لا يخرج عذره عن هذه الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
فإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض، وأوجب الله عز وجل الهجرة منها، ولم يجعل محبتها عذراً في عدم مغادرتها حينما كانت الهجرة واجبة فكيف بغيرها من البلدان؟! القسم الثالث: ممن يكون في بلاد المشركين فهو من لا حرج عليه في الإقامة بين أظهرهم، وهم نوعان: النوع الأول: أن يكون مظهراً دينه، فيتبرأ منهم وما هم عليه، ويصرح لهم ببراءته منهم لأنهم ليسوا على حق، بل إنهم على باطل، وهذا هو إظهار الدين الذي لا تجب معه الهجرة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، فأمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأنه لا يعبد معبوداتهم، وأنهم على الشرك وليسوا على التوحيد، وأنه قد رضي بدينه الذي هو عليه، وبرأ من دينهم الذي هم عليه كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:104 - 105].
فمن قال مثل ذلك للمشركين لم تجب عليه الهجرة، وليس المراد بإظهار الدين أن يترك الإنسان يصلي ولا يقال له: اعبد الأوثان، إظهار الدين الذي يذكر العلماء أنه شرط في جواز الإقامة بين المشركين ليس مجرد أن يلتزم شعائر الإسلام من إقامة الصلاة مثلاً أو أنهم لا يجبرونه على عبادة الأوثان، فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم، ولا يكرهون الناس على أن يعبدوا الأوثان، بل المقصود بإظهار الدين هو التصريح للكفار بالعداوة، وإذا لم يحصل التصريح للمشركين بالبراءة منهم ومن دينهم لم يكن إظهار الدين حاصلاً.
وإظهار الدين بهذا المعنى يرخص في عدم الهجرة من تلك البلاد.
وهنا نذكر حادثة بئر معونة الحادثة المشهورة، فإنه لما قدم عامر بن مالك المشهور بملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، ولكنه لم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد! لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخشى عليهم أهل هذه البلاد) فقال له: أنا لهم جار، وتعهد أنه سوف يحميهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين رضي الله عنهم، وكان ذلك في شهر صفر على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فلما نزلوها بعثوا أحدهم -وهو حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب، بل عدا عليه وقتله، فلما طعن حرام بن ملحان بالرمح صاح وقال: فزت ورب الكعبة! ثم استنفر عامر بن الطفيل بني عامر يستعديهم على بقية الدعاة السبعين من الصحابة الذين خرجوا لدعوة هؤلاء في دار الكفر في بلادهم، فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لن نخفر عهد عامر بن مالك، فاستدعى عليهم قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه وانطلقوا فأحاطوا بالقوم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم فقتل المسلمين عن آخرهم، وكان من الدعاة رجلان بعيداً عنهم لم يشهدا هذه الوقعة الغادرة، أحدهما عمرو بن أمية الضمري، ولم يعرفا النبأ إلا فيما بعد، فأقبلا يقاتلان عن إخوانهما فقتل زميله معهم، وأفلت هو فرجع إلى المدينة.
فمكث الرسول عليه الصلاة والسلام شهراً كاملاً يقنت ويدعو على قبائل سليم: رعل وذكوان وعصية.
وفي هذا الحادث يقول الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة: لا يجوز للمسلم المقام في دار الكفر أو الحرب إن لم يمكنه إظهار دينه، ويسن له ذلك إن أمكنه إظهار دينه، والذي يدل عليه هذا المشهد من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان مقام المسلم في دار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك، فذلك من أنواع الجهاد التي تتعلق مسئوليته بالمسلمين كلهم على أساس فرض الكفاية الذي إن قام به البعض قياماً تاماً سقطت المسئولية عن الباقين وإلا اشتركوا كلهم في الإثم، وهذا الكلام أشار إليه صاحب مغني المحتاج في فقه الشافعي.
فالقسم الذي لا حرج عليه في الإقامة بين أظهر المشركين هو الذي يقدر على إظهار دينه بالمعنى الذي أوضحناه.
النوع الثاني: أن يقيم عندهم مستضعفاً فيجوز، وقد بين الله الاستضعاف في كتابه في قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]، وفي قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75].
يقول البغوي رحمه الله تعالى: إن الأسير المسلم عند الكفار إذا استطاع الخلاص منهم لم يحل له المقام بينهم، فإن حلفوه أنهم إذا تركوه لا يخرج إلى دار الإسلام فحلف؛ وجب عليه الخروج، ويمينه يمين مكره لا كفارة عليه فيها، وإن حلف لهم من غير أن يحلفوه فعليه الخروج إلى دار الإسلام، ويلزمه كفارة يمين.
أما حكم السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ففي ذلك تفصيل: فإن كان ي