من مظاهر الفساد الذي عاث في الأمة وغرقت فيه بعد أن تخلت عن مفهوم الولاء والبراء الأساسي لعقيدة التوحيد أن وقع كثير من المسلمين في محبة الكفار وتعظيمهم ونصرتهم على أولياء الله، وتنحية شريعة الله عن الحكم في الأرض، ورميها بالقشور والجمود، وعدم موافقة العقل والتقدم الحضاري.
ومن هذه المظاهر أيضاً: استيراد القوانين الكافرة شرقية كانت أو غريبة، وإحلالها محل شريعة الله الغراء، وغمز كل مسلم يطالب بشرع الله بالتعفن والرجعية والتخلف والتطرف.
ومن مظاهر هذا أيضاً: التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطعن في دواوينها الكريمة، والحط من قدر أولئك الرجال الأعلام الذين خدموا هذه السنة حتى وصلت إلينا.
ومن ذلك أيضاً: أن قامت دعوات جاهلية جديدة تعتبر ردة في حياة المسلمين، مثل الدعوة إلى القومية العربية، أو الشورانية، أو الهندية، أو أي نوع من هذه القوميات الجاهلية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة.
ومن ذلك أيضاً: إفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق وسائل التربية والتعليم، وسموم الغزو الفكري في المناهج الإعلامية والتربوية بكل أصنافها.
أمام هذه الصور الكثيرة يحار المسلم حينما يتأمل في واقع المسلمين، وحينما ينظر في منابع الإسلام الصافية فيتساءل: لمن يكون ولاء المسلم؟ ولمن يكون عداؤه؟ ممن يتبرأ؟ ما حكم من يقع ويتورط في موالاة الكفار واتخاذهم أخداناً وأصحاباً ورفاقاً؟ وما حكم الإسلام في هذه المناهج الكفرية التي يروج لها المستغفلون أو الحاقدون ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وما هم إلا دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فحصل مسخ في تصورات المسلمين، حتى صار بعضهم يظن أن من أقر بتوحيد الربوبية وبأن هناك إلهاً، وأن مجرد الإيمان بوجود الله يكفي، ويسمون ذلك إيماناً، حتى إن أحدهم ترجم كتاباً ألفه بعض علماء العلوم الطبيعية وسماه: العلم يدعو إلى الإيمان؛ وأصل الكتاب: الإنسان لا يقوم وحده، وما في الكتاب إلا إثبات توحيد الربوبية، فكل عالم -مثلاً- في التشريح أو في النباتات أو في أي علم من العلوم الطبيعية، يحكي كيف توصل إلى معرفة وجود الله سبحانه وتعالى عن طريق آيات الله الكونية، وهذا اكتشاف للحقائق، الله سبحانه وتعالى وضعها في الآفاق وفي أنفسنا لنستدل بها على قدرته، ولنتدرج منها إلى الوصول إلى توحيد العبادة، فكما لا يخلق إلا الله إذاً لا يُعبد إلا الله، كما لا يرزق إلا الله إذاً لا يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فكثير من الناس يظن أن اليهودي أو النصراني لأنه مؤمن بوجود الله؛ فإنه بذلك يطلق عليه لفظ الإيمان.
نقول: الله سبحانه وتعالى مع وجود جزئيات من الإيمان عند الكفار ومع ذلك قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]؛ مع أنهم قد يؤمنون باليوم الآخر، قد يؤمنون بالبعث والنشور، لكن الإيمان عبارة عن حقيقة كلية تتركب من أجزاء، وهذه الأجزاء مترابطة فيما بينها ومتشابكة بحيث لا ينفك أحدها عن الآخر، فإذا زال أحدها زال الجميع، ومن أجل ذلك يقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، مع أنه أتاهم رسول واحد، لكن الكفر برسول واحد يصح أن يطلق على من يتلفظ به أنه كافر بجميع الرسل، وكذلك النصارى لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم صاروا كالكافرين كفراً كلياً؛ لأنهم أيضاً لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فمن انهدم عنده جزء من هذه الحقيقة الكلية انهدمت حقيقة الإيمان كلها؛ ولذلك قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فالإنسان لا بد أن يفهم من لا إله إلا الله أنه: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فالمفهوم الذي يشيع عند كثير من المسلمين أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، هذا التوحيد كان موجوداً عند مشركي مكة، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله؛ لكن كانوا يشركون معه غيره في العبادة.
فكون (لا إله إلا لله) فيها ولاء وبراء، وكون (لا إله إلا الله) معناها: توحيد الألوهية والعبادة، هذه معان كادت أن لا تخطر على كثير من الناس إلا من رحم الله.
فالإنسان لا يستقيم له إسلام، ولا يصح له إسلام، ولو قال بالتوحيد ونفى الشرك عن نفسه، إلا بعداوة المشركين وموالاة المؤمنين، يقول الله سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعادة؛ كالنصرة والأنس والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك.