جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم.
قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً) أخرجه الشيخان.
قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي وقد جاء يسأله عن الهجرة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحك) وهذه كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في مصيبة لا يستحقها.
وقوله: (إن شأن الهجرة شديد) أي: إن القيام بحق الهجرة شديد، وفي لفظ مسلم: (إن شأن الهجرة لشديد) بالتوكيد باللام، أي: لا يقدر على الهجرة كل الناس، فهذه عبادة من أشق وأعظم العبادات، فلا يقدر عليها إلا القليل من الناس، ولا يقدر عليها كل الناس.
ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى عمل دون ذلك يمكن أن يطيقه من الأعمال الصالحة، وهو أقل من الهجرة في تكاليفها، فقال: (فهل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: فهل تؤدي صدقتها؟) يعني: تعطي الزكاة لمستحقيها، وتؤدي كذلك الواجبات الأخرى وفرائض الدين الواجبة عليك؟ (قال: نعم.
قال: فاعمل من وراء البحار) المقصود بالبحار هنا: القرى والمدن، أي: اعمل من وراء القرى والمدن، سواءً كنت مقيماً في بلدك أو غيرها من أقصى بلاد الإسلام، يعني: اسكن ما شئت من بلاد المسلمين، واسكن حيث شئت من البلاد التي تكون الغلبة فيها والعلو لأحكام الإسلام، والقرية تسمى البحرة لاتساعها؛ لأنها تشبه البحر في اتساعها.
يعني: إن أديت الفرائض والواجبات، فاعمل في أي مكان شئت من القرى أو المدن حتى لو كانت في أقصى بلاد المسلمين.
قال: (فإن الله لن يترك من عمل شيئاًَ) يعني: لن ينقصك من صواب عملك شيئاً.
وهذا الحديث يشعر بأن المسلم الذي يؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ونفسه، لا بأس بعدم هجرته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاعمل من وراء البحار)؛ لأنه دله عن البديل عن الهجرة، وأنه ينال من عمله أجراً عظيماً، وقوله: (اعمل من وراء البحار) يعني: أي أعمال أخرى، من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أو غيرها من واجبات الدين، وهذا محله في البلد الذي لم يكن تحت حكم عدو الدين، أما إذا كان سيقعد في بلد يحكم فيه أعداء الإسلام، وستجري عليه أحكام الكفر؛ فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يستدل بهذا الحديث على أن عدم الهجرة لا بأس به كما هو ظاهر هذا الحديث؛ لأن المقصود به مكان يعلوه أحكام الإسلام وليس أحكام الكفر.
أما من كان تحت سلطة الكفرة، بحيث يخاف على دينه وأهله وماله، فإن الهجرة لا تزال واجبة عليه إلى قيام الساعة، ولا حجة له في الحديث السابق، ولا حجة له أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن المعنى: لا تجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فمن مكث في مكة بعد الفتح فلا تجب عليه الهجرة إلى المدينة؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فانتفت العلة الموجبة للهجرة.
وقيل: المقصود أن فضيلة الهجرة الكاملة فاتت بالفتح؛ لأن في الصحيحين عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: (انطلقت بـ أبي معبد -وهو شقيقه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مضت الهجرة لأهلها) يعني: فاز بالثواب الأكمل وحاز الغنيمة الكبرى من سبق بالهجرة قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فبقيت مزية الهجرة كما بقيت مزية الإنفاق كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، يعني: فضيلة الهجرة إلى المدينة لها منقبة عظيمة، ولها فضائل عظيمة، ولكن تلك المنزلة التي نالها المهاجرون والأنصار هي خاصة بالهجرة من مكة أو غيرها من البلاد إلى المدينة قبل الفتح، فهؤلاء الذين سبقوا بالأجر الأعظم من تلك الهجرة.
فلا ينبغي للإنسان أن يستدل بمثل هذه الأحاديث على عدم وجوب الهجرة، وعلى أن الهجرة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم أو بفتح مكة، فإن المقصود بهذه الأحاديث أنه لا بأس بعدم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام، وليس لمن يعيش تحت سلطان الكفر.
وقد روى البخاري أن عبيد بن عمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية.
ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) أن حكم الإسلام اتسع وشمل البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلاهم حكم الله، وشريعة الإسلام، ولكن جهاد ونية، فإن الهجرة قد مضت لأهلها، فهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث حين كان المسلم مقيماً تحت حكم الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش ويقيم وسط الكفار، مستدلاً بمثل هذه الأحاديث على أنه لا هجرة بعد الفتح أو إن شأن الهجرة شديد، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! أين الهجرة إليك، حيث كنت أم إلى أرض معلومة، أم لقوم خاصة، أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟! قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة، قال: يعني أرضاً باليمامة)، وفي رواية له: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضرمة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) يعني: ما ارتفع علم الجهاد، وقام المسلمون بمقاتلة أعدائهم.