من استقرى نُصُوص الشَّارِع وفتاواه يحصل عِنْده قَاعِدَة كُلية وَهِي أَن الشَّارِع قد ضبط أَنْوَاع الْبر من الْوضُوء وَالْغسْل وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا مِمَّا إجمعت الْملَل عَلَيْهِ بأنحاء الضَّبْط فشرع لَهَا أركانا وشروطا وآدابا وَوضع لَهَا مكروهات ومفسدات وجوائز وَأَشْبع القَوْل فِي هَذَا حق الإشباع ثمَّ لم يبْحَث عَن تِلْكَ الْأَركان وَغَيرهَا بحدود جَامِعَة مَانِعَة كثير بحث وَكلما سُئِلَ عَن أَحْكَام جزئية تتَعَلَّق بِتِلْكَ الْأَركان والشروط وَغَيرهَا أحالها على مَا يفهمون فِي نُفُوسهم من الْأَلْفَاظ المستعلمة وأرشدهم إِلَى رد الجزئيات نَحْو الكليات وَلم يزدْ على ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مسَائِل قَليلَة لأسباب طارئة من لجاج الْقَوْم وَنَحْوه فشرع غسل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء ثمَّ لم يحد الْغسْل بِحَدّ جَامع مَانع يعرف بِهِ أَن الدَّلْك دَاخل فِي حَقِيقَته أم لَا وَأَن إسالة المَاء دَاخِلَة فِيهَا أم لَا وَلم يقسم المَاء إِلَى مُطلق ومقيد وَلم يبين أَحْكَام الْبِئْر والغدير وَنَحْوهمَا وَهَذِه الْمسَائِل كلهَا كَثِيرَة الْوُقُوع لَا يتَصَوَّر عدم وُقُوعهَا فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما سَأَلَهُ السَّائِل فِي قصَّة بِئْر بضَاعَة وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ لم يزدْ على الرَّد إِلَى مَا يفهمونه من اللَّفْظ ويعتادونه فِيمَا بَينهم وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ مَا وجدنَا فِي أَمر المَاء إِلَّا سَعَة وَلما سَأَلته امْرَأَة عَن الثَّوْب يُصِيبهُ دم الْحَيْضَة لم يزدْ على أَن قَالَ حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ انضحيه ثمَّ صلي فِيهِ فَلم يَأْتِ بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْدهم وَأمر بإستقبال الْقبْلَة وَلم يعلمنَا طَرِيق معرفَة الْقبْلَة وَقد كَانَت الصَّحَابَة يسافرون ويجتهدون فِي أَمر الْقبْلَة وَكَانَت لَهُم حَاجَة شَدِيد إِلَى معرفَة طَرِيق الإجتهاد فَهَذَا كُله لتفويضه مثل ذَلِك إِلَى رَأْيهمْ وَهَكَذَا أَكثر فَتَاوَاهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا لَا يخفى على منصف لَبِيب
وَقد فهمنا من تتبع أَحْكَامه أَنه رَاعى فِي ترك التعمق وَعدم الْإِكْثَار من وُجُوه الضَّبْط مصلحَة عَظِيمَة وَهِي أَن هَذِه الْمسَائِل ترجع إِلَى حقائق تسْتَعْمل فِي الْعرف على إجمالها وَلَا يعرف حَدهَا الْجَامِع الْمَانِع إِلَّا بعسر وَرُبمَا يحْتَاج عِنْد إِقَامَة الْحَد إِلَى التَّمْيِيز بَين المشكلين بِأَحْكَام وضوابط يحرجون بإقامتها ثمَّ إِن ضبطت وفسرت لَا يُمكن تَفْسِيرهَا إِلَّا بحقائق مثلهَا وهلم جرا فيتسلسل الْأَمر أَو يقف فِي بعض مَا هُنَالك إِلَى التَّفْوِيض إِلَى رَأْي الْمُبْتَلى بِهِ والحقائق الْأُخْرَى لَيست بِأَحَق من الأولى فِي التَّفْوِيض إِلَى المبتلين فلأجل هَذِه الْمصلحَة فوض الْحَقَائِق أول مرّة