كان نور الدين محمود منُذ توليه الحكم وهو في الثلاثين من عمره، واضح الرؤية والهدف منُذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير، حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرَّب كل منهما يوم الحسم، فالخطوة الأولى كان قد بدأها والده عماد الدين حين حرّر إمارة الرها التي تشكل تداخلاً مع الأراضي الإسلامية فتمكّن بذلك من تطهير الأرض الداخلية، وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي، وعليه أن يخطو الخطوة الثانية لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمَّن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانياً، وطرد الصليبيين في المنطقة ثالثاً. وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن واحد فأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين تحت راية مذهب واحد، وهو مذهب أهل السنة، وكان كلما توغل في خضم الجهاد وتقدم به الزمان يزداد اقتناعاً بصوابية هذه السياسة وكان سبيله إلى ذلك مزيجاً من العمل السياسي والمعارك العسكرية - والنشاط الثقافي العلمي التربوي - التي تخدم توحيد الصف والهدف (?).
أتاحت وفاة عماد الدين زنكي وتقسيم مملكته بين ولديه فرصة طيبة لأعدائها للإقدام على غزوها، ففي الجنوب تطلع معين الدين أنر، صاحب السلطة الفعلية في دمشق إلى السيطرة على بعلبك وحمص وحماة، وفي الشرق، حاول الملك ألب أرسلان السلجوقي فرض سيطرته على الأملاك الزنكية، غير أنه باء بالفشل، واستردَّ الأراتقة المدن التي سبق أن ضمّها عماد الدين زنكي من ديار بكر وفي شمال الشام، مضى ريموند بواتييه، أمير أنطاكية، في غاراته حتى بلغ أسوار حلب، وكان الناس آمنين، فقتل وسبى عدداً كثيراً من المسلمين، وتمادى في غاراته حتى بلغ صلدى ونهبها، ولما وصل الخبر إلى حلب خرج أسد الدين شيركوه على رأس قوة عسكرية للتصدي له، فأدرك فرقة صليبية استاقت بعض الأسرى،