فقل لحمامة الخرجاء سقيا ... لصوتك حين أعجبك المقيل
بكت أحزانها فبكيت شجوي ... ولم ننطق فأفهم ما تقول
ألام على فيض الدموع وإنني ... بفيض الدموع الجاريات جدير
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه ... وأصبر عنها؟! إنني لصبور؟
هتوف الضحى معروفة اللحن لم تزل ... تقود الهوى مهدى لها ويقودها
جزوع, جمود العين, دائمة البكا ... وكيف بكا ذي مقلة وجمودها
مطوقة لم يضرب الحزن فضة ... عليها ولم يعطل من الطوق جيدها
ورقا مطوقة السوالف سندسا ... لم تحك صنعتها حياكة حاك
وكأن أرجلها القواني ألبست ... نعلا من المرجان دون شراك
تشدو على خضر الغصون بألسن ... صبغت ملاثمها بلا مسواك
وكأنما كحلت بنار جوانحي ... فترى بأعينها لهيب حشاك
فبينا أنا مستغرق في لذة كلامه, معتبر بحكمه وأحكامه, إذ رأيت أمامه حمامة, قد جعل طوق العبودية في عنقها علامة, فقلت لها: حدثيني عن شوقك وذوقك، وأظهري لي حكمة تطويق طوقك.
فقالت: أنا المطوقة بطوق الأمانة, المتقلدة تقليد الصيانة, فأنا لحمل الأمانة ندبت, وإذا رأيت أهل الخيانة ندمت.
أحمل الرسائل, وأبلغ الوسائل, وأجيب عن المسائل لكني أخبرك عن خبري لتعلم صحة مخبري! أعلمك بالقصة الصحيحة؛ فإن الدين النصيحة, فما كل طائر أمين, ولا كل حالف يصدق في اليمين.
أما المخصوص بحفظ الأمانة من جنسي, وما أبرئ نفسي! فيحمل الأمانة منا من كان أبلق وأخضر, لأنه أحسن في الشكل والمنظر, وأعدل في الخبر والمخبر؛ فإن الطائر إذا كان أسود دل على تجاوز حد النصح, فتكون الطبيعة قد جاوزت حدها.
فإذا كان أبيض دل على قصور الطبيعة على حد النصح, فيدل على انحراف المزاج عن حد الاعتدال, ولا تكون الهمة العالية إلا في الروح الزكية, ولا شرف العزيمة إلا في النفس النفيسة المستقيمة.
فإذا اعتدل لون الطائر، دل على اعتدال تركيبه فصلح حينئذ لتقريبه وتأديبه, فأشترى بالتخريج, ثم أعرف الطريق بالتدريج, ثم يحملوني كتب الأسرار, ولطائف الأخبار, فأطير, وأقطع الهواء المستطير, خائفا من خارج جارح, حاذرا من سائح سانح, جازعاً من رائح زايح.
أكابد الظمأ في الهوى والهواجر, وأطوي على الطوى في المحاجر, فلو رأيت حبة قمح مع شدة جوعي عدلت عنها, وذكرت ما جرى على آدم منها, فأرتفع خشية من كمين مدفون, أو شرك يعيقني فأنقلب بصفقة مغبون, فإذا وصلت إلى مأمني, وحللت في موطني, أديت ما حملت, وأخبرت بما عملت, فهنالك طوقت, وبالبشارة خلقت, وأشكر الله على ما وفقت.
وقال ابن الوردي في إشارة الحمامة: فبينما الباز سكران بما له من البان, وإذا حمامة قد وقفت أمامه, وقالت: كم تفتخر وأنت عظم نخر. أنت من آلة اللعب والصيد, وأن من آلة الجد والكيد.
أنا مع الطوق والخضاب من حملة الكتاب. ومع حذري من شرك الشرك, وخوفي من فخ الإفك حملت الأمانة التي أبت الحبال عن حملها, وامتثلت مرسوم (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) .
فلما أوصلت الحقوق، أمنت العقوق, وقبلت بالبشائر والخلوق. ومما أعجب العالمين أني مخضوب البنان ولي يمين أقول للملك: "دع الاهتمام لا تلعب بي فأنا الحمام, فمهما حدث على البعد من أخصامك, أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك.
كتمت عن الناس سري, وأبهمت بين الغنا والنوح أمري
رأوا خضابي وطوقي ... فاستنكفوا من بكائي
ثم ادعوا أن ربي ... مناسب لغنائي
فقلت: كفوا فهو ربي ... باد بغير جفاء
فالخضب من فيض دمعي=والطوق عقد ولائي
في سنة سبع وستين وخمسمائة اتخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي؛ وذلك لامتداد مملكته واتساعها؛ فإنها في حد النوبة إلى همذان. فلذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي ترسل الرسائل إلى الآفاق, في أسرع مدة, وأيسر عدة.
وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل: "الحمام هو ملائكة الملوك"