ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة، وأيضاً فقد قال تعالى عن نبيه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ من يعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] ، وهذا محض التكليف.
وقد تقدم قوله حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ} إلى قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 14-15] ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأَ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فجعل لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابهم ونهانا عن الاستنجاءِ بهم.
ولو لم يكن فى هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]- وقد أخبر أنه يعذب كفرة الجن- لكفى به حجة على أنهم مكلفون باتباع الرسل. ومما يدل على أنهم مأْمورن منهيون بشريعة الإسلام ما تضمنته سورة الرحمن، فإنه سبحانه وتعالى ذكر خلق النوعين فى قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِن نَارٍ} ثم خاطب النوعين بالخطاب المتضمن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم فى وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] ، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم والأقدام، ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم.
وهذا كله تصريح فى أنهم هم المكلفون المأْمورون المنهيون المثابون المعاقبون.
وفى الترمذى من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: "لقد قرأْتها على الجن ليلة الجن وكانوا أحسن مردوداً منكم: كنت كلما أتيت على آية: {فَبِأَى آلاءَ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمؤنة الخطاب، وعلمهم أنهم مقصودون به.
وقوله فى هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمُ أَيُّهَا الثَّقَلان} [الرحمن: 31] وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع، قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها ومجيء الآخرة والجزاءُ فيها، والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء. والفراغ فى اللغة على وجهين: فراغ من