لا تحزن وإنما تحزن الأمارة لفوات محبوبها، وليس هذا كما قال، فإن النفس المطمئنة تحزن على تقصيرها فى أداءِ الحق وعلى تضييعها الوقت وإيثارها غير الله عليه فى الأحيان، وهذا الحزن لا بد منه، إذ التقصير والتضييع لازم، وأما استشهاده على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات:6] ، فوجهه أن الكنود هو الكفور، وهو الذى يذكر المصائب، وينسى النعم، ولا ريب أن الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريب أن الحزن الناشيء عن الكنود حزن ناشيء عن النفس الأَمارة بالسوءِ، وأما الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا، وقد تقدم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلقاته والله أعلم.
فصل
قال: وخوفهم هيبة الجلال لا خوف العذاب، فإن خوفهم مناضلة عن النفس وضن بها، وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس: {يَخَافُونَ رَبَّهِمْ مِن فَوْقِهِمْ} [النمل: 50] ، وقال فى حق العوام: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحديث وعلته.
وقوله هو: "هيبة الجلال لا خوف العذاب" تقدم بيان بطلانه، وأن الله سبحانه أثنى على خاصة أوليائه من الملائكة والأنبياءِ وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأَنهم: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابِهِ} [الإسراء: 57] ، [فكيف] يقال: إن خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترهات، والزعومات، ودعاوى الأنفس.
وقوله: "إن الخوف مناضلة عن النفس" فسبحان الله، هل يقال لمن خاف الله وخاف عقوبته إنه مناضل ربه؟ ولو كان مناضلة فهو مناضلة العدو والهوى والشهوة، وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإن من خاف شيئاً ناضل عنه فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه، وما ثمَّ إلا مناضلة وإلقاء باليد إلى التهلكة، ولولا هذه المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة.
والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره، وليس الضن بالنفس عن عذاب الله نقصاً، بل الكمال والفوز والنعيم فى ضن العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب الله، ومن لم يضن بنفسه فليس فيه خير البتة، والضن بالنفس إنما يذم إذا ضن بها عن بذلها فى محبوب الرب وأوامره، وأما إذا ضن بها عن