فإن عارضته أسباب الفعل، فالواجب عليه الجد فى الهرب والتشمير فى الكف والبعد، وهذا تدبير للنهى.
وأما القدر الذى يصيبه بغير إرادته، فهذا الذى يحسن فيه إسقاط التدبير جملة، وصبره ورضاه بما قسم له من محبوب ومكروه.
فعلى هذا التفصل ينبغى أن يوضع إسقاط التدبير، وجماع ذلك أنك تسقط التدبير فى حظك وتكون قائماً بالتدبير فى حق ربك، وهكذا ينبغى أن تفرغ الهمة من إجالتها فى إصلاح شأْنك، فإن إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحصل فيه فراغ الهمة وترك التدبير، وأما إصلاح شأْنك بأداءِ حق الله فالواجب شغل الهمة وإجالتها فى القيام به.
وقوله: "بوقوفهم على الفراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها" فلا ريب أن الله سبحانه وتعالى قضى القضية وفرغ من تدبير أُمور الخلائق، ولكن قدرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه وتعالى من أقضيته فى خلقه وتدبيره مانعاً له من قيامه بالأسباب التى جعلها طرقاً لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التى بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعاً له من تعاطيها.
وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاءِ النوع من النكاح والتسرى، ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعاً له [من ذلك] وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغاً منها قضاءً وقدراً، فهى منوطة بأسبابها التى يتوقف حصولها عليها شراً وخلقاً.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {يأَيتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكَ} [الفجر: 27-28] ، فالنفس المطمئنة هى التى اطمأنت إلى ربها وسكنت إلى حبه واطمأنت بذكره وأيقنت بوعده ورضيت بقضائه، وهى ضد النفس الأمارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتها بمجرد إسقاط تدبيرها، بل القيام بحقه والطمأّنينة بحبه وبذكره.
فصل
قال: وصبرهم صونهم قلوبهم عن خاطر السوءِ أن الله قضى قضاءً عارياً عن المرافقة خارجاً عن الخيرة، قال الله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] ، قد تقدم الكلام فى الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان.
وما ذكره فى تفسيره [هاهنا] غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جداً، فإن الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفها عن السخط، وأما صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق بالله فلا يقال له صبر بل هذا من لوازم الإيمان، وهو كاعتقاد أنه سبحانه وتعالى حكيم رحيم