وقوله: " [تسلى] عن المصائب" صحيح، فإن المحب يتسلى [بمحبوبه] عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال لما فاته فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى فى محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى فى شيء غيره عوضاً منه أصلاً، فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه.
ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أُحد تنظر ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم مرت بأبيها وأخيها مقتولين، فلم تقف عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: ها هو ذا حى، فلما نظرت إليه قالت: ما أُبالى إذا سلمتَ هلك من هلك.
ولو لم يكن فى المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها شرفاً، فإن المصائب لازمة للعبد لا محيد له عنها، ولا يمكن دفعها بمثل المحبة وهكذا مصائب الموت وما بعدها إنما تسهل وتهون بالمحبة، وكذلك مصائب القيامة، وأعظم المصائب مصيبة النار ولا يدفعها إلا محبة الله وحده ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمحبة أصل كل خير فى الدنيا والآخرة كما قال سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "المرءُ مع من أحب" فهم مع الله تعالى.
وقوله: "وهى فى طريق العوام عمدة الإيمان" كلام قاصر، فإنها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذى لا يقوم إلا عليه، فلا إيمان بدونها البتة.
وإنما [أن] مراده هذه المحبة الخاصة التى تنشأُ من رؤية النعم هى عمدة إيمان العوام، وأما الخواص فعمدة إيمانهم محبة تنشأُ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماءِ والصفات. والله أعلم.
قال أبو العباس: "وأما محبة الخواص فهى محبة خاطفة: تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهى بالنعوت، ولا تعرف إلا بالحيرة والسكوت."
وقال بعضهم:
يقول وقد أُلبست وجدا وحيرة ... وقد ضمَّنا بعد التفرق محضر
ألست الذى كنا نحدث أنه ... ولوع بذكراها، فأَين التذكر؟
فرد عليها الوجد:
أفنيت ذكره فلم ... يبق إلا زفرة وتحسر
فيقال: [ها هنا] مرتبتان من المحبة مختلف فى أيتهما أكمل من الأُخرى: إحداهما هذه المرتبة التى أشار إليها المصنف، وهى الدرجة الثالثة التى ذكرها شيخ الإسلام