بأَنه الانخلاع [من] شهود الشواهد، وجعله على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى تجريد الكشف عن كسب اليقين، والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة تجريد الخلاص من شهود التصريح.
(يتبع ... )
فقوله فى الأُولى: "تجريد الكشف عن كسب اليقين" يريد كشف الإِيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإِن حصل باكتساب اليقين من أَدلته وبراهينه، فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده.
وقوله فى الدرجة الثانية: "تجريد عين الجمع عن درك العلم" لما كانت الدرجة الأُولى تجريداً عن الكسب وانتهاءً إِلى عين الجمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إِثبات وسيلة أَو سبب، اقتضت تجريداً آخر أَكمل من الأَول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأُولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإِدراك وهذا يقتضى أيضاً تجريداً ثالثاً أكمل من الثانى وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث فى عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق، وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إِلى تجريده، ولو بقى له التفات إِليه لم يكمل تجريده. ووراءُ هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إِليه كشعرة من ظهر بعير إِلى جملته، وهو تجريد الحب والإِرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التى هى مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إِلا به.