وذلك مما قد فرغ منه.
وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث.
قلت: لمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به.
ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإنما ألجأَه إِلى التزام القول بإِنكار الفاعل المختار فى هذا المقام تسليمه لهم الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة التى قادت إِلى التزام بعض أَنواع الباطل ولو أَعطى الدليل حقه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إِلى حق الطائفة الأُخرى، وتحيز إِلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة، وهو تقرير لما [جاءوا] به بجميع طرق الحق، لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأَن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته، وأَن له المشيئة النافذة [والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت] عليه من الإِحراق، والماءِ عما خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب