أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إِلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنهم ربما رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ، فإن العاقل إذا أدرك تأَلم جوارحه وأَحس به تأْلم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمها واشتدت فكرته فى ذلك وفى الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له، وهذه الآلام زائدة على مجرد أَلم الطبيعة، ولا ريب أن البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما يحصل للعاقل المميز، فإن أَراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنه لا شعور لها بالآلام البتة وأنها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإن الواحد منا يعلم باضطرار أَنه كان يتألم فى طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك.
وقالت طائفة: كل ما يتأَلم به الطفل والبهيمة ليس من قبل الله، ولا فعل الله فيه الأَلم لما ثبت من حكمته وهذا يشبه قولهم فى أَفعال الحيوان أَنها ليست من خلق الله ولا كانت بمشيئته، لكن هذا أَشد فساداً من ذلك، فإِن هذه الآلام حوادث لا تتعلق باختيار من قامت به ولا بإِرادته فلا بد لها من محدث، إِذ وجود حادث محال والله خالقها بأسبابها المفضية إِليها، فخالق السبب خالق للمسبب. فإن أراد هؤلاءِ نفى فعلها عن الله مباشرة من غير توسط بسبب أَصلاً فهذا قد يكون حقاً، وإِن أَرادوا أَنها غير منسوبة إِلى قدرته ومشيئته البتة فباطل. وذهبت طائفة إِلى أن فى كل نوع من أَنواع الحيوانات أَنبياءَ ورسلاً، وأَنها مستحقة للثواب والعقاب، وأَن ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمّهِ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
وقالت طائفة من التناسخية: إن الله خلق خلقه كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أَمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه فى جسد بهيمة تبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإِبل والبقر والبراغيث والقمل، فما سلط على هذه البهائم من الآلام فهو للأَرواح الآدمية التى أَودعت هذه الأَجساد فمن كان منهم زانياً أَو زانية كوفيء بأَن جعل فى بدن حيوان ما يمكنه الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفاً عن الزنا مع ظلمه وغشمه كوفيء بأَن جعل فى بدن تيس أَو عصفور أَو ديك. ومن كان منهم جباراً عنيداً كوفيء بأَن جعل فى بدن قملة أَو قرادة ونحوهما،