المثال الأول: أن الماء خلقه الله طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلق الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يكن طاهراً، ولكن بمخاطة أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت اوصافه وخرج عن لاخلقة التى خلق عليها، فكانت تلك لانجاسات والقاذورات بمنزلة أيوى الطفل وكافليه لاذين يهودانه وينصرونه ويمجسونه ويشركونه، وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس.
المثال الثاني: الشراب المعتصر من العنب، فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها، فلو خلي على حاله لم يكن إلا طاهرا طيبا ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرا، فخرج بذلك عن خلقته التي خلق عليها من الطهارة والطيب، فصار أخبث شيء وأنجسه. فلو انقلب خلا أو زال بزوالها والله أعلم.
المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطن الحيوان واستقرت هنالك خرجت عن حالتها التي خلقت عليها واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خبثا وفسادا لم يكن فيها لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها. ولما أنزل الله الماء طاهرا نافعا فمازج الأرض سالت به أوديتها أوجد جل جلاله بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات وأوجد مع ذلك المر والشوك والحنظل وغير ذلك، واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة، قال تعالى: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] ، ثم إنه سبحانه يصرف ما أخرجه من هذا الماء وبقلبه ويحيل بعضه إلى بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، وهذا كما خلق كل دابة من ماء ثم خالف بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما يصلح لها، وأمشى بعضا على بطنه وبعضا على رجلين وبعضا على أربع، حكمة بالغة وقدرة باهرة. وكذلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقلب أحوال العالم كما يشاء ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده ويظهر ملكه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .