المبحث الثالث
علاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو
مرتبة العفو -على رأي القائلين بها- هي مرتبة تقع بين الحلال والحرام، والدليل على وجودها ما ورد في القرآن الكريم من نهي الصحابة - رضي الله عنهم - عن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عما سكت عنه الشرع في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً عن ذلك فيما رواه الدارقطني عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَني - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا". (?)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كانَ رَسُولث الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَقَالَ: "يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله تَعَالى فَرَضَ عَلَيْكُم الحَجَّ"، فَقَامَ رَجُلُ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يا رَسُولَ الله؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَجَعَلَ يُعْرضُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا"، ثُمَّ قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلاَفُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِم، فَإِذَا أَمَرْتُكُم بِأَمْرٍ فَأْتُوهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذَا نَهَيْتُكُم عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوه". (?)
فظاهر هذه النصوص أن هناك أشياء سكت عنها الشارع من غير نسيان لها، وإنما رحمة بالناس، فهي عفو باقية على الإباحة الأصلية. ويتبيّن من هذا أن سكوت الشارع عن ذكر أحكام بعض الأشياء إنما هو عفو عنها، وليس غفلة عن حكمها.
وقد قسم الشاطبي مرتبة العفو إلى ثلاثة أقسام:
1 - العمل بمقتضى أحد الدليلين المتعارضين وإن قوي المعارِض، وذلك في الحالات الآتية: (?)