والصنف الثاني: رجل همته في نيل لذته فهو منقاد لداعي الشهوة أين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك، ولا يُنال العلمُ إلا بهجر اللذات وتطليق الراحة، قال مسلم في صحيحه: "قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة الجسم"1 وقال إبراهيم الحربي: "أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعم ومن آثر الراحة فاتته الراحة، فما لصاحب اللذات وما لدرجة وراثة الأنبياء"2.
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد3
فإن العلم صناعة القلب وشغله، فمن لم يتفرغ لصناعته وشغله لم تنله. فالقلب له وجهة واحدة فإذا وجهت وجهته إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم.
ومن لم يُغلِّبْ لذة إدراكه للعلم على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبداً.
الصنف الثالث: المنقاد الذي لم يَثْلُج صدره بالعلم ولم يطمئن به قلبه بل هو ضعيف البصيرة فيه، لكنه منقاد لأهله، وهذه حال أتباع الحق من مقلديهم، وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين وإنما هم من مكثري سواد الجيش لا من أمرائه وفرسانه.
الصنف الرابع: من حِرْصُهُ وهِمَّتُهُ في جمع الأموال وتثميرها وادخارها، فقد صارت لذته في ذلك وفنى بها عما سواها فلا يرى شيئاً أطيب له مما هو فيه فمن أين هذا ودرجة العلم.
فهؤلاء الأصناف الأربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من أئمة العلم ولا من طلبته الصادقين في طلبه.
ومن تعلق منهم بشيء منه فهو من المتسلقين عليه المتشبهين بحملته وأهله المدعين لوصاله المبتوتين من حباله.
وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون، فإن الناس يتشبهون بهم لما يظنون عندهم من العلم ويقولون لسنا خيراً منهم، ولا نرغب بأنفسنا عنهم، فهم حجة لكل مفتون ولهذا قال بعض الصحابة الكرام: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"4