صور وخواطر (صفحة 256)

وكذلك يصنع الخبيث؛ يصرف الناس أبداً إلى الإفراط أو إلى التفريط ليجد بينهما دائماً باباً يدخل منه، ولذلك مدح الله الاعتدال والتوسط، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة وسطاً، وجعل كل فضيلة وسطاً بين رذيلتين. والمسلك الحق في التلاوة وسط بين القراءة الببغاوية بلا فهم ولا تدبر، ولو صححت المخارج وضبطت الأحكام، وبين تفسير القرآن بالرأي، من غير رجوع إلى كتب اللغة وأسباب النزول والمأثور من التفسير.

* * *

وجعلت أقرأ وأرجع إلى الزمخشري وابن كثير وما عندي من كتب التفسير، فلما اشتغلت بالتلاوة والذكر شعرت بلذة روحية عرفت معها معنى قول الرجل الصالح (ونسيت من هو): "نحن في لذة لو ذاقها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف"! (?) وعرفت أن هذه هي اللذة الباقية على حين تنقطع اللذائذ كلها. كُلْ ما شئت من الطيّبات، فإذا شبعت مرت بك ساعة لا يبقى للطعام فيها لذة تتوهمها أو ترجوها. وائت من شئت من الجميلات، فإذا انتهيت مرت بك ساعة لا تبقى للوصال فيها لذة تتصورها أو تتمناها. وكل لذة لها حد إن هي بلغته وقفت عنده، إلا لذة الروح. ولقد قرأت قصصاً كثيرة تمثل الواقع (وإن كانت من صنع الخيال) عن أناس نالوا من المال ما يعجزون عن إنفاقه ووصلوا إلى كل ما يريدون من المُتَع، وكانوا مع ذلك يشكون الفراغ والملل ويحسون أنهم قد فقدوا شيئاً، فهم أبداً يتطلعون إلى المستقبل ينتظرون هذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015