سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ ... كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم
{فَجَاسُواْ} قال الزجاج: طافوا، والجَوْسُ: الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي: الجوسُ هو التردُّد والطلب {الكرة} الدَّولة والغَلَبة {تَتْبِيراً} هلاكاً ودماراً {مَحَوْنَآ} طمسنا قال علماء اللغة: المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره {طَآئِرَهُ} عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال {مُتْرَفِيهَا} المُتْرفُ: المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش {يَصْلاهَا} يدخلها ويذوق حرَّها {مَّدْحُوراً} مطروداً مبعداً من رحمة الله.
التفسِير: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله، اللهُ العليُّ الشأن، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جزءٍ من الليل {مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام قال المفسرون: وإنما قال {لَيْلاً} بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ {سُبْحَانَ} الدال على كمال القدرة، وبالغ الحكمة، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، وكان الإِسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} أي لنريَ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آياتنا العجيبة العظيمة، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض، فقد رأى صلوات الله عليه السماوات العُلى والجنة والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإِيمان {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} أي لا تتخذوا لكم ربا تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون: لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} أي ليحصلنَّ منكم الإفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس: أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلمٍ