ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالا لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ وكيف يهتم الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} أي إن هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إِبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المجيد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق {لاَ يَمُوتُ. . وَلاَ يَحْيَا} وكذلك {الجهر. . وَمَا يخفى} .
2 - جناس الاشتقاق {نُيَسِّرُكَ لليسرى} و {ذَكِّرْ. . والذكرى} .
3 - المقابلة بين {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} وبين {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} .
4 - حذف المفعول ليفيد العموم في قوله {خَلَقَ فسوى} وفي {قَدَّرَ فهدى} لأن المراد خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه.
5 - السجع غير المتكلف وهو كثير في القرآن مثل {أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: صحف موسى غير التوراة، وقد رود أنه أعطي عشر صحف وكانت كلها عبراً، قال أبو ذر: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صحف موسى ما كانت؟ قال: كانت عبراً كلها (عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح {عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك} عجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها {عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم ينصب} عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل!!)