أما كيف يتعبد المرء بهذه الصفة الجليلة لله؟ فأقول: أولاً: لا بد أن يعلم أن الحكم حكمان: حكم كوني وحكم شرعي، فالحكم الكوني لا بد أن يقع، ولا مرد له، ولا يستطيع أحد أن يرده على الله جل في علاه! والحكم الكوني يقع فيما يحبه الله وفيما لا يحبه الله جل في علاه، كوجود إبليس.
وحكم الله الكوني يقع حتماً فلا مرد له، ويمكن أن يمثل له بقصة سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه حين قال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة، فحكمه الله فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (تنزلون على حكم سعد؟)، قالوا: ننزل على حكم سعد، أخ كريم، فأشار إليهم فقال: تنزلون على حكمي؟ قالوا: ننزل على حكمك.
ثم نظر ناحية النبي صلى الله عليه وسلم تأدباً منه ولم يشر، فقال: أترضون بحكمي؟ -يقصد بذلك: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: (اللهم نعم) فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)، فهذا حكم لا مرد له بحال من الأحوال.
والحكم الثاني هو: الحكم الشرعي، ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
إذاً: الفرق بينه وبين الكوني أن الحكم الكوني يقع فيما يحبه الله وفيما لا يحبه، وأما الحكم الشرعي فيكون فيما يحبه الله جل في علاه فقط، وقد يقع وقد لا يقع، بمعنى أنه يمكن أن يقبله الناس ويمكن أن يردوه.
وقد جلى الله جل في علاه هذا الصنف بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، فقد أنزل الله لهم الحكم من فوق سبع سماوات وما رضوه، بل ردوه على الله جل في علاه.
فلا بد أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الحكم لله جل في علاه حكم كوني وحكم شرعي، وإذا أردت أن تتعبد وتمحص النظر في هذه الصفة فلا بد لك أن تعلم أن حكم الله تعالى له شقان: شق الدنيا، وشق الآخرة، أما شق الدنيا فلابد أن تعلم أن الله حكم عدل، وأن الله جل في علاه إذا حكم بين العباد وفصل بينهم فصل بينهم بالقسط وبالعدل، فإن مقتضى حكم الله تعالى نشر العدل ومنع الظلم ونشر البر ومنع الفساد، بل كل المصالح الدنيوية والأخروية نابعة عن حكم الله الشرعي فإذا أردت أن تتعبد لله بحكمه الكوني فما اختلفت في شيء مع أحد أو تنازعت معه في شيء فلا بد عليك لزاماً أن ترجع إلى حكم الله تعالى؛ فإن الله يحب أن يرى أثر هذه الصفة عليك، فإن كنت ممن يعتقد اعتقاداً جازماً أن أحقية الحكم لا تكون إلا لله جل في علاه، فإن تنازعت في شيء جليل أو دقيق فمرجعه إلى الله، وعليك أن تستحضر في ذلك قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].