والعبد إذا أراد يتعبد لله بهذه الصفة فعليه أن ينظر إلى من سبقه بالتعبد بها ليعلم كيف يتعبد لله بهذه الصفة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك، فقد علم أن الله حليم يحب الحلم؛ لأن الله جل في علاه يحب صفاته، ويحب أن يرى أثر هذه الصفات على العبد المؤمن الذي اعتقدها لله جل في علاه، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الله حليم ويحب كل حليم، وانظروا إلى حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بيته أولاً، فقد كان حلم النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه يضرب به المثل، فكان ذات مرة عند عائشة رضي الله عنها وأرضاها وكانت نوبتها فأرسلت زينب رضي الله عنها وأرضاها بقصعة فيها طعام في نوبة عائشة، فغارت عائشة، وغيرة النساء معلومة، حتى قال الإمام مالك: إن المرأة إذا غارت قذفت، وإذا قذفت لم تحد؛ لأن الغيرة تغلب على العقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أصحابه، فالمجلس فيه أصحاب رسول الله وفيه المعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، بينما هم كذلك إذ تخرج عائشة رضي الله عنها وأرضاها قبل الحجاب، وتأخذ قصعة الطعام فتلقي بها فتكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (غارت أمكم غارت أمكم، إناء بإناء وطعام بطعام)، انظروا إلى حلم النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته وهو بذلك يتعبد لله بهذه الصفة الجليلة بعدما اعتقدها اعتقاداً جازماً لله جل في علاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشتهي عسلاً، فكان في كل يوم في العصر يذهب إلى زينب فيجلس يسامرها ويحب أن يأكل عندها العسل، فغارت عائشة فقالت: يذهب إلى زينب ويجلس، لم يجلس؟ فعرفت أنه يأكل عندها العسل، فذهبت إلى سودة، وكانت عائشة شديدة الرأي عليهن؛ لأن عائشة كانت لها الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكن يخشين عائشة، يعني: إن خالفنها تألم عليها رسول الله، كن يعتقدن ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم، فهو يتعامل مع كل امرأة بحسن خلقه، فذهبت عائشة إلى سودة، وسودة أكبر منها سناً بمراحل فقالت: إذا دخل عليك فقولي له: أكلت مغافير؟ ونزلت على رأي عائشة، ثم ذهبت حفصة وقالت لها الشيء نفسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يشتم منه رائحة لا تقبل، وهذه سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم لكل إنسان يحاول قدر الإمكان أن يكون على رائحة طيبة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على حفصة فقالت: يا رسول الله! كأنها تشمئز، ما هذا؟ أكلت مغافير؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله ما أكلت مغافير ما أكلت إلا عسلاً)، فذهب إلى سودة فقالت: ما هذا يا رسول الله! أكلت مغافير؟ ثم دخل على عائشة فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ما هذا يا رسول الله! ما هذه الرائحة؟ أكلت مغافير؟ فقال: (والله ما أكلت مغافير بل أكلت هذا العسل)، فأقسم بالله ألا يأكل العسل، وهذا حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فهو لم ينهر امرأة منهن، بل منع نفسه مما يشتهي حتى لا يقال له: أكلت مغافير، فأنزل الله جل في علاه على النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
وانظر إلى سعة حلم النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته الوفود وجاءه أعرابي جلف لا يعرف كيف يتعامل مع أكرم خلق الله على الله، فجبذه بردائه صلى الله عليه وسلم، حتى ظهر ذلك في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أعطني من مال الله ليس من مالك ولا من مال أبيك، فأراد الصحابة قتل هذا الأعرابي والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم له ويكتب له عطاء.
وقد علمنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الحلم، وابنته كذلك، وكان ذلك في حادثة الإفك وقد تولى كبره المنافق العربيد عبد الله بن أبي ابن سلول وخاض فيه من خاض، ومرضت أم المؤمنين شهراً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها -وبكل حلم- ويقول: (كيف تيكم؟) ويتركها ويسير، فلما علمت بحادثة الإفك دخل عليها رسول الله وهي تبكي فقال: (يا عائشة! إن كنت قد ألممت بالذنب، فاستغفري ربك فإنه غفور رحيم، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله.
فقالت: والله ليس مثلي ومثلكم إلا كمثل يعقوب مع أولاده، فصبر جميل والله المستعان) من الحلم؛ لأن علامات الحلم الصبر، فالله جل في علاه كافأها على حلمها في هذا البلاء بأن برأها من فوق سبع سماوات، وقد اشتد غضب أبيها أبي بكر رضي الله عنه وقال: والله لا أنفق على مسطح فأنزل الله معاتباً إياه: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، فقال: أحب أن يغفر الله لي، ثم أعاد النفقة على مسطح.
وعمر بن الخطاب ضرب لنا أروع الأمثلة في الحلم أيضاً، عندما دخل المسجد وكان هناك من ينام في المسجد وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه رجل طوال، ورجله ليست بالهينة، فوطئ رجلاً بقدمه، فقام الرجل فقال: أنت أيها الأعمى! يقول ذلك لـ عمر، وعمر معه من معه من الصحابة، فقاموا لتأديبه فقال: اتركوه وقال للرجل: أوما ترى عيني؟ إني لست بأعمى، وهذا من حلم عمر رضي الله عنه وأرضاه.
اللهم ارزقنا الحلم، فالإنسان إذا تعلم الحلم ساد، والقاعدة عند العلماء: لا يسود المرء إلا بالحلم.
فنسأل الله جل في علاه أن يعلمنا الحلم، وأن يجعلنا نطبق هذه الآيات وهذه الصفات على أنفسنا، فيرى الله منا الصدق ويحلينا بصفات المتقين، ويرزقنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.