إذا تعبد العبد لله بهذه الصفة -صفة الباطنية- علم أن الله منه قريب، وإذا علم أن الله قريب منه علم أن دعائه لا بد أن يكون مسموعاً، ويستلزم من ذلك أن يكون مستجاباً، ويقال: مستجاباً وعلى قرب الإجابة حتى ولو طال الزمن؛ لأن ما هو آت فهو قريب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي)، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
ومن العجب أن يبخل المرء على نفسه بالدعاء وهو يعتقد بأن الله قريب منه، وأنه يسمع همساته وبكائه وتضرعه! فلا يرفع يديه ليطلب من ربه جل وعلا ما يطمع في الحصول عليه من حاجة أخروية أو دنيوية.
كما أنك إذا علمت أن ربك قريب، فستعلم أن الدعاء لا ينبغي أن تنزله إلا بالله جل في علاه، وقدوتك في ذلك الأنبياء، فهذا زكريا عليه السلام دخل على مريم فوجد عندها رزقاً، قال المفسرون: كان يجد رزق الشتاء في الصيف ورزق الصيف في الشتاء، فسألها كما أخبر الله عنه: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فلما علم القرب الحقيقي دعا ربه قائلاً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:4 - 6]، وفي موطن آخر أخبر الله عنه أنه دعاه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38]، فاستجاب الله له في التو، وأصبح له ولد هبة من الله سبحانه وتعالى، فالله قريب من دعاء عباده، فلا يبخلن أحد على نفسه بأن يتقرب إلى القريب فيدعوه بحاجته، فإن الله سيقضي له حاجته.
كما أنك إذا تعبدت لربك في الباطنية بالقرب استحييت من ربك، فإذا دنت منك المعصية علمت أن الله قريب منك يرى ما تفعل، ويسمع ما تقول، ويعلم نبضات قلبك، فاستحييت من ربك وابتعدت عن هذه المعصية، وقلت كما قال الأولون: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وإذا علمت أن الله جل في علاه رقيب منك، وأن باطنية الله جل في علاه في قلبك، فستوقن أنه على قرب منك، فيسمع الغيبة والنميمة، ويرى السرقة، ولا يخفى عليه النظر الحرام، ولا تغيب المعاصي عنه، وهو على قربه منك يمهلك ولا يهملك، وإذا أخذك لم يفلتك سبحانه جل في علاه.
كما أنك إذا تعبدت لربك بهذه الصفة؛ بلغت إلى مرتبة الإحسان، ومراتب الدين ثلاث: المرتبة الأولى: الإسلام، والثانية: الإيمان، والثالثة: الإحسان، فمن أراد أن يرتقي من مرتبة الإسلام إلى الإيمان ثم الإحسان؛ فعليه أن يتدبر هذه الاسم الباطن، وعليه أن يتدبر هذه الصفة الجليلة ويسعى جاهداً لأن يتعبد لله جل في علاه، بهذه الصفة العظيمة.
وقد ذكروا أن رجلاً عالماً كان يقرب منه طالباً من طلبة العلم فقالوا له: لِمَ تقرب هذا الطالب وتبعد هؤلاء الطلبة؟! ولِمَ يحظى هذا الطالب بالحفاوة عن هؤلاء وكلهم يدرسون عندك؟ فقال العالم: أريكم منه شيئاً تعرفون منه لِمَ أقرب هذا عن أصحابه وزملائه، فقال للذين يطلبون عنده العلم بعد أن أعطى كل واحد طيراً: كل واحد منكم يأخذ هذا الطير ويذبحه في مكان لا يراه أحد فيه، فأخذ كل طالب علم طيراً من هذه الطير وأخذ يجتهد أن يبحث عن مكان لا يراه أحد فيه، فيذبح الطير فيه، فذبح طيره الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وجاءوا جميعاً إلى هذا العالم كل يحكي: كنت قد اختبأت فذبحته ولم يرني أحد، والآخر يقول كما قال الأول وهكذا، ثم يأتي هذا الطالب النجيب الأريب الفقيه وقد أتى بطيره ولم يذبحه، فقال له العالم: لِمَ لمْ تذبح طيرك؟! فقال: يا معلمي! بحثت في كل مكان لا يراني الله فيه فما وجدت مكاناً إلا والله يراني فيه، كيف لا وهو الرقيب سبحانه وتعالى.
ولذا ينبغي أن تدرك أن باطنية الله قرب من العبد، وكما أن هذا الطالب قُرب في الدنيا فسيكون في الآخرة من المقربين؛ لأنه تعبد الله بالإحسان، وهذه هي ثمرة الإحسان على المتورعين المتقين.
وذكر أن أبا الإمام البخاري ذلك العلم الحبر، المحدث الفقيه، الذي قال فيه العلماء: أصح كتاب بعد كتاب الله هو كتاب صحيح البخاري، ذكر أن أباه وهو يتصبب عرقاً من سكرات الموت كان يقول: يا بني! قد تركت لك ألف ألف دينار فيها دينار فيه شبهة، فكان الإمام البخاري هو ثمرة التعبد لله بالباطنية! فالأب كان يعلم أن الله يراه، ولم يقل يوماً كما يقول البعض اليوم: أتركها في رقبة عالم وأصبح سالماً، بل كان يتعبد لله لقربه منه، وأما نحن فنسأل الله أن يغفر لنا ما اجترأنا عليه من معاصي وما تجاوزنا من حدود الله جل في علاه، وما ذاك إلا لأننا جهلنا هذه الصفة.
فالمتعلم دائماً يكون أفضل من الجاهل؛ لأن المتعلم بعدما يرجع إلى ربه يتعبد لله بهذا العلم، نسأل الله أن يغفر الله لنا اجتراءنا على معاصيه.