إذا أثبت العبد لله جلا في علاه صفة الأولية، وعلم أن الله هو الأول فلا بد أن يتعبد بهذه الصفة.
والتعبد بهذه الصفة تتضمن عدة أمور: أولاها: الرد على الفلاسفة، فإذا اعتقد العبد اعتقاد جازماً بأن الله هو الأول، وأن الله كان ولم يكن شيء معه، فسوف يرد على الفلاسفة الذين يقولون بالتسلسل، والتسلسل قول مردود فالله كان ولا شيء معه، والكل كان عدماً، وما كان إلا الله جلا في علاه، والعبد لم يكن في هذا الكون إلا بعد أن خلقه الله جلا وعلا، وأسبغ عليه نعمه، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، فالله جلا في علاه كوّن هذا الإنسان وخلقه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه، وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شياً.
إذاً: فأول شيء يتعبد به الإنسان لله جلا في علاه في صفة الأولية: هو الرد على الفلاسفة الذين يشوشون على عقائد الناس.
ثانيها: أن العجب داء، وهو من أشد الأمراض التي تميت القلوب، وهذا المرض لا يأتي إلا بالتخلف عن فهم أولية الله جلا في علاه، فداء العجب يورث الكبر، والكبر يورث النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذره من كبر).
وأصل الكبر هو أن يعجب الإنسان بعلمه، أو بقوته، أو بغناه، أو بكثرته وكثرة من معه، فالتعبد لله بصفة الأولية، يقلل من داء العجب في القلب؛ لأن العبد إذا تدبر أن الله هو الأول، وهو الذي ابتدأ خلقه وأنعم عليه، وهو الذي علمه وأطعمه وسقاه، وهو الذي أوجده في هذه الدنيا على الإسلام، فإذا تدبر ذلك علم أولاً: أن العلم الذي هو فيه لم يأت من عنده نفسه، وإنما هو من عند الله، فلا يقول كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] بل سيقول: إن الله هو الذي علمني بعد أن كنت جاهلاً يقول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي: ليس للعبد فيها شأن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس مني شيء، وليس بي شيء، وليس لي شيء، إن الأمر كله لله، أوله ونهايته لله جلا في علاه؛ فالله هو الذي رزق هذا الإنسان العلم والقوة والمال، وهداه إلى الإسلام، فإذا تدبر العبد ذلك فلا يمكن أن يحتقر أحداً، أو يصل إلى قلبه داء العجب؛ لأنه يعلم أن الله جلا وعلا هو الذي ابتدأ الخير الذي هو فيه، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، وهذا معنى من معاني أوليته جل في علاه، فهو الذي ابتدأ هذا الخير وأعطاه إياه، وهو الذي يستطيع أن يمنعه منه، بل ويسحب منه كل النعم التي أوصلها إليه.
ثالثها: إن أفضل عبادة على اللسان هي ذكر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم -عندما نصح رجلاً كان يستنصحه في آخر عمره-: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وكفى للذاكرين فضلاً أن الله يذكر من ذكره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير من).
وذكْر الله جلا في علاه ليس بقوة العبد ولا بجهده، وإنما الله بأوليته هو الذي ابتدأ على لسانه أن يذكره، ثم بعد ذلك قبل منه هذا الذكر، ثم كافأه بأن ذكره في الملأ الأعلى، وهذه نعمة عظيمة ينبغي على الإنسان أن يتفكر فيها، فإنه ما ذكر الله إلا بأوليته، وما سجد لله ليرتفع درجة إلا بأوليته، فكيف لا يهفو قلبه إلى خالقه الذي ابتدأ الإنعام عليه؟ إن العبد إذا قال: لا إله إلا الله فهي ليست منه، إنما هي من الأول، فهو الذي ابتدءها على لسانه، ثم كافأه بأن ذكره في الملأ الأعلى.