ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدوا. وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في «أحد» فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم، كان هذا التعليم حاضرا في نفوسها: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب والثقة بالله الذي ينصر أولياءه .. وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي .. كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف .. وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة يحققها هذا التعليم الرباني.
وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» .. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداء! .. ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة .. إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة .. إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها. وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا .. والمسافة كبيرة كبيرة.