صحيح البخاري (صفحة 2)

[مقدمة د مصطفى البغا]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين الذي أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين نذيرا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله الذي أرسله الله تعالى رحمة للناس وآتاه الحكمة وجوامع الكلم وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

أما بعد فإن السنة هي المصدر التشريعي الثاني - من المصادر المتفق عليها لدى المسلمين - بعد كتاب الله عز وجل فهي أصل من أصول الدين ومنهل خصيب للتشريع ودليل أساسي من أدلة الأحكام تعرفنا حكم الله سبحانه وتعالى في كل كبير وصغير فهي جامعة مانعة عامة شاملة لا تفوتها شاردة ولا واردة إلا وقد أعطتها حكما شرعيا فيها بيان لما كان وما سيكون وفيها تنظيم عملي رائع لشؤون الحياة مستوحى عن الله تعالى خالق الحياة ومن يحيا ومرتبط بمالك الملك والملكوت الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فقلما تحدث حادثة أو تنزل نازلة إلا ونجد في السنة المطهرة الحكم الشافي والبيان الوافي لها. وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبلغ عن ربه {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} / المائدة 67 /

وهو المبين مراد الله عز وجل فيما أنزل {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم} / النحل 44 /. فالسنة المطهرة تأكيد لما بين كتاب الله من أحكام وتفصيل لما أجمل وتقييد لما أطلق وتخصيص لما هو عام أو تشريع لما سكت عنه القرآن ولكنه تطبيق لقواعده العامة وأصوله المقررة ومستمد منه

ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المظهر العملي لشريعة الله تعالى فهو المكلف الأول {وأنا أول المسلمين} / الأنعام 163 /. {وأنا أول المؤمنين} / الأعراف 143 /. وهو القدوة الصالحة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} / الأحزاب 21 /. وهو الذي يتلقى الوحي من السماء {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} / النجم 3 - 4 /. وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه وهو الذي قذف الله النور في قلبه وأجرى الحق على لسانه وجعل طاعته من طاعته ومعصيته معصية له سبحانه {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} / النساء 80 /

لهذا كله كانت السنة المطهرة في مجمل أحكامها وتشريعاتها - من حيث وحوب العمل بها - بمنزلة كتاب الله تعالى فما ثبت فيها فهو ثابت بوحي من الله سبحانه وأمر منه وتكليف {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} / الحشر 7 /. وعليه فالسنة حجة على المسلمين بلا خلاف وقد أجمع علماء الأمة على أن من أنكر حجتيها عموما فهو كافر مرتد عن الإسلام

وإذا كان الأمر كذلك فلا بد للمسلمين من الرجوع إلى ما نقل عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أو فعل أو تقرير والأخذ بما ثبت منه ليعمل به. ولقد بذل السلف الصالح من العلماء جهودا مشكورة في خدمة دين الله عز وجل فدونوا لنا أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مصنفات تنوعت أساليبها واختلف شروطها وكان من أفضها وأصحها [الجامع الصحيح] لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي تلقته الأمة بالقبول وأولته عناية الدراسة والتقرير وتناولته بالشرح تارة والاختصار تارة أخرى. واقبل عليه طلاب العلم يقرؤون متنه ويحفظونه عن ظهر قلب. ولا غرابة فهو المرجع الثاني - بعد كتاب الله عز وجل - في دين الله تعالى وهكذا نجد المدارس والجامعات في العالم الإسلامي ما زالت تعنى به دراسة وحفظا وبعضها تقرره في مناهجها ليقرأ من أوله إلى آخره في مختلف صفوفها

واسم صحيح البخاري كما سماه مصنفه (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسننه وأيامه)

وهذا الكتاب على مكانته وأهميته واحتياج كل مسلم إليه - ولا نبالغ في القول إذا قلنا يجب أن توجد في كل بيت مسلم نسخة منه على الأقل - هذا الكتاب لا نزال نجد أكثر طبعاته إذا لم نقل جميعها على النمط القديم خالية من المزاي الفنية للطباعة الحديثة تحشى الصفحة بالأبواب والأحاديث الواحد تلو الآخر دون فواصل أو ترقيم أو بداءة متميزة مما يجعل القارىء يجد صعوبة في مطالعته أو الرجوع إليه

أضف إلى ذلك أنه قلما توجد لهذه الطبعات فهارس فيها شيء من التفصيل رغم ما يمتاز به هذا الكتاب من كثرة الأبواب - إذ يغلب أن يجعل القارىء كل حديث بابا مستقلا يترجم له بعنوان - وهذا من شأنه أن يوقع طالب العلم والباحث في حرج ومشقة عندما يحتاج أن يراجع حديثا في موضوع من المواضيع أو بحث من البحوث لا سيما إذا لا حظنا ما يمتاز به البخاري في صحيحه من تكرار للحديث في أبواب متعددة ومناسبات مختلفة بل ربما أتى بالحديث في الباب لأقل مناسبة

وهذه الصعوبة قد لمستها بنفسي وشعرت بها حينما أردت أن أتقدم برسالتي في الفقه وأصوله التي أعددتها لنيل درجة الدكتوراة من الجامعة الأزهرية في القاهرة - عام 1393 هـ - 1973 م (وقد طبعت هذه الرسالة لأول مرة عام - 1400 هـ - 1980 م - وموضوعها [أثر الأدلة المختلف فيها - مصادر التشريع التبعية في الفقه الإسلامي] في دمشق) - وذلك أن رسالتي تحتوي على الكثير من الأحاديث التي يحتج بها الفقهاء على ما قروره من أحكام في المسائل الفقهية التي أوردتها في أبحاث الرسالة فكنت أجد كل الصعوبة عندما أبحث عن الحديث في صحيح البخاري للملاحظات التي ذكرتها آنفا وهذا ما جعلني أفكر بالقيام بعمل أخدم فيه الإسلام والمسلمين بخدمة هذا الكتاب العظيم الأهمية. وحفزني على التفكير جديا بهذا العمل أكثر فأكثر ما لمسته لدى غيري من طلاب العلم والباحيثن عندما كنت أشكو لهم ما أجد من عناء لدى مراجعتي هذا الكتاب فكانوا يبثون إلي شكواهم بمثل ما أجد وبعضهم يظهر أسفه لعزوفه عن هذا الكتاب الجليل القدر وعدم الاستفادة منه بسبب تلك الصعوبة التي يجدها في الرجوع إليه

ولقد عزمت على القيام بتنفيذ ما فكرت فيه وبدأت العلم بعون الله تعالى وتوفيقه بعد أن انتهيت من مناقشة رسالتي ونلت الدكتوراة بفضل الله جلا وعلا وتهيأت لي الأسباب. وشجعنى على الإقدام على ذلك إخوة لي ناصحون وزملاء لي في البحث العلمي مجربون وأعجبهم ذلك ووافق رغبة في نفوسهم. بعد أن أنجزت جزءا من العمل عرضته على بعض أساتذتي ذوي الفضل علي من كبار علماء هذا البلد العاملين فسروا بذلك سرورا بلغيا وأقروا منهجي ودعوا لي بالتوفيق

وها أنا اليوم أقدم للمسلمين في بقاع الأرض هذا الكتاب الذي أحبوه وأكبروه وأحلوه من نفوسهم المكان اللائق به موشحا بما وفقني الله تعالى إليه من خدمة له

طور بواسطة نورين ميديا © 2015