يعتبر الاستحمام رياضة يومية، ويذكر (قيصر) أن الجرماني كان يستحم بالرغم من قسوة البرد في الأنهار، كما كان الجنسان يستحمان معا دون خجل. ولما زار الطرطوشي بلاد الفرنج لاحظ شيئا آخر، فكان وهو المسلم الذي يتوضأ قبل كل فرض من فروض الصلاة الخمسة يستنكر حال القذارة التي يحياها الشعب؛ لذلك صور هذه الحالة التي شاهدها بقوله إنه لم يشاهد في حياته أقذر منهم لا يغتسلون إلا مرة أو مرتين كل عام وبالماء البارد. أما ملابسهم فلا يغسلونها بعد أن لبسوها لكيلا تتمزق، والسر في هذا التحول العظيم في عادات الشعب الجرماني هذه التعاليم الجديدة التي تقول إن تجريد الجسد من الملابس مدعاة لإثارة الغرائز الجنسية والفوضى الخلقية؛ لذلك عدلوا عن الاستحمام وخلع الملابس ولجأوا إلى غرف صغيرة لتغيير ملابسهم، فاتهمتهم التعاليم الجديدة بالفسق والدعارة، بينما القذارة مظهر من مظاهر العفاف.

ثم اندلعت نيران الحروب الصليبية وأقبل الصليبيون على الشرق فشاهدوا الحمامات في كل مكان، فنحن نعلم مثلا أن بغداد وحدها كان فيها في القرن العاشر الميلادي آلاف الحمامات الساخنة والحمامون والمدلكون والحلاقون للرجال والنساء للعناية بالجسد لا أسبوعيًا فقد بل يوميًا أيضًا، وقد لمس الصليبيون هذه الحياة العربية وأدركوا أثر الحمامات بما فيها من وسائل الراحة والنظافة والزينة فهاموا بها كما هام أولئك الغربيون الذين شاهدوها في إسبانيا وصقلية فألحدوا جميعهم في إدخالها إلى أوربا بالرغم من المعارضات الشديدة وصرخات الاستنكار التي دوت في كل مكان.

وهكذا أخذت قلاع الدفاع التي شيدتها أوربا المسيحية في وجه العرب والإسلام والحضارة العربية تستسلم الواحدة بعد الأخرى، وذلك بفضل القنطرة التجارية التي أقامتها الجمهوريات الإيطالية مع العرب وبفضل التجار والمسافرين والصليبيين، واندفع تيار الحضارة العربية يكتسح ما أمامه من عوائق فأفاقت أوربا من نعاسها وأدركت أثر الجهالة التي تغط فيها ونهضت بفضل العرب والعروبة والحضارة العربية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015