وعلم طبقات الأرض عند ابن سينا مثل لخاصيتين من خصائص المعرفة العربية سواء في القرن العاشر أو الرابع عشر، وسواء في شرق العالم العربي أو غربه وسواء في أصفهان أو في الأندلس، أعني خاصيتي عدم الاتساق والديناميكية، فالمعرفة العربية تنظر إلى العالم وأحداث الحياة على أنها في خلق دائم وأنها نهر خالد يتجلى فيه خلق الله، لذلك تدعو المعرفة العربية إلى الطموح في إجراء التجارب الشخصية والبحث وشرح الحقيقة والرجوع بالأشياء إلى أصولها، كما أنها تعتمد على أدلة لا تقبل شكًا فهي ثابتة تهتم علاوة على ذلك بالشهود العيان.
وحدث مرة أن هوى نيزك وكان شاهده محاميًا، وقد كان هذا في عصر كان فيه الغرب بعيدًا كل البعد عن هذا التقدم وذلك الرقي، وكان عاجزًا عن إدراك كنه الظواهر الطبيعية كما كان عاجزًا عن تعليلها، ثم يذكر ابن سينا:
«وإنما تتكون الحجارة في الأكثر على وجهين من التكوّن أحدهما على سبيل التفخير والثاني على سبيل الجمود فإن كثيرًا من الأحجار يتكون من الجوهر الغالب فيه الأرضية وكثيرًا منها يتكون من الجوهر الغالب فيه المائية، فكثير من الطين يخف ويستحيل أولا شيئًا بين الحجر والطين وهو حجر رخو يستحيل حجرًا، وأولى الطينات بذلك ما كان لزجًا فإن لم يكن لزجًا فإنه يتفتت في أكثر الأمر قبل أن يتحجر، وقد شاهدنا في طفولتنا مواضع كان فيها الطين الذي يغسل به الرأس وذلك في شط جيحون ثم شاهدناه قد تحجر تحجرًا رخوًا والمدة قريبة من ثلاث وعشرين سنة. . .».
لكن مترجمي العصور الوسطى لا يهتمون كثيرًا بهذه الملاحظات التي أبداها ابن سينا، كما لا يهتمون بسعة اطلاعه وهذه ملاحظات مع أخرى كثيرة جدًا نتبين منها مدى دقة الباحث وتعقبه. وبينما نجد هذه العبارات وتلك الأمثال في النسخة العربية لابن سينا، إذا بنا نجد اللاتيني يعالج الفصل بشيء من عدم الاكتراث، ويذكر أنه يتحدث، وهو يعني ابن سينا، عن ذكريات الطفولة وغسل الرأس.
ففي أوربا ظل القوم زمنًا طويلًا لا علم لهم بالجغرافيا وبخاصة كعلم يقوم على