المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه وعليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل، وتأويل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة وهذا التأويل من أبطل الباطل فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين قسما لا يقدر عليه غيره وقسما مقدورا للعباد فقط في القسم المقدور للغير: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال في غير المقدور للغير: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} ومعلوم قطعا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه وكذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان فإن هذا يهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} هل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال فإن قالوا ليس ذلك معناها وإنما معناها الفاهم ووجدهم كذلك أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم أو جعل على قلوبهم علامة يعرف الملائكة بها أنهم ضلال قيل هذا من جنس قولكم إن هداه سبحانه وإضلاله بتسميتهم مهتدين وضالين فهذه أربع تحريفات لكم وهو أنه سماهم بذلك وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة وأخبر عنهم بذلك ووجدهم كذلك فالإخبار من جنس التسمية وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى وأما العلامة فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} على معنى أنك لا تعلمه بعلامة ولكن الله هو الذي يعلمه بها وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} من يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها وفي أي لغة يفهم من قول الداعي اهدنا الصراط المستقيم علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون وقولهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ وقوله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وأمثال ذلك من النصوص ففي أي لغة وأي لسان يفهم من هذا علمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة} علمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك نعم لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك أو كان الحق تبعا لأهوائهم وكانت نصوصه تبعا لبدع المبتدعين وآراء المتحيرين وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبهم وبدعها وآرائها فالقرآن عند الجهمية جهمي وعند المعتزلة معتزلي وعند القدرية قدري وعند الرافضة رافضي وكذلك هو عند جميع أهل الباطل: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم ووجدهم ففي أي لسان وأي لغة وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتديا وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة فإن قالوا نحن لم نقل هذا في نحو ذلك وإنما قلناه في نحو أضله الله أي وجده ضالا كما يقال أحمدت الرجل وأبخلته وأجننته إذا