...
هو الغاية لخلقه وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة والحكمة والرحمة تأبى أن يتصل عذابه سرمدا إلى غير نهاية أما الرحمة فظاهر وأما الحكمة فلأنه إنما عذب على أمر طرأ على الفطرة وغيرها ولم يخلق عليه من أصل الخلقة ولا خلق له فهو لم يخلق للإشراك ولا للعذاب وإنما خلق للعبادة والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق عليه العذاب وذلك الموجب لا دوام له فإنه باطل بخلاف الحق الذي هو موجب الرحمة فإنه دائم بدوام الحق سبحانه وهو الغاية وليس موجب العذاب غاية كما أن العذاب ليس بغاية بخلاف الرحمة فإنها غاية وموجبها غاية فتأمله حق التأمل فإنه سر المسألة، قالوا والرب تعالى تسمى بالغفور الرحيم ولم يتسمى بالمعذب ولا بالمعاقب بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وقال تعالى: {نَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وهذا كثير في القرآن فإنه سبحانه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم ويتسمى ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب ولا المسقم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت وقد كتب على نفسه كتابا أن رحمته سبقت غضبه وكذلك هو في أهل النار فإن رحمته فيهم سبقت غضبه فإنه رحمهم أنواعا من الرحمة قبل أن أغضبوه بشركهم ورحمهم في حال شركهم ورحمهم بإقامة الحجة عليهم ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم وأمهلهم ولم يعاجلهم بل وسعتهم رحمته فرحمته غلبت غضبه ولولا ذلك لخرب العالم وسقطت السماوات على الأرض وخرت الجبال وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه امتنع أن يكون موجب الغضب دائما بدوامه غالبا لرحمته قالوا والتعذيب إما أن يكون عبثا أو لمصلحة وحكمة وكونه عبثا مما ينزه أحكم الحاكمين عنه ونسبته إليه نسبة لما هو من أعظم النقائص إليه وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها وهي إما أن تعود على الرب تعالى وهو يتعالى عن ذلك ويتقدس عنه وإما أن تعود إلى المخلوق إما نفس المعذب وإما غيره أوهما والأول ممتنع ولا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية وأما مصلحة غيره فإن كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت وإن كانت تكميل لذته وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم فهذا لو كان أقسى الخلق لرق لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبارة العتيدة ومداواتها كيما تصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فتحسمها وتلك المادة شر طارئ على خير خلقت عليه في ابتداء فطرتها قالوا والأقسام الممكنة في الخلق خمسة لا مزيد عليها خير محض ومقابله وخير راجح ومقابله وخير وشر متساويان والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها وهما الخير الخالص والراجح وأما الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده بل تأبى ذلك فإن كل ما خلقه الله سبحانه فإنما خلقه لحكمة وجودها أولى من عدمها وخلق الدواب الشريرة والأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما هذا غاية المحال فالخير هو المقصود بالذات بالقصد الأول والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد الغايات والنهايات وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل وعلى هذا فالعذاب شر وله غاية تطلب به