ينتهي إلى أمر مراد لنفسه الجواب الخامس أن يقال غاية ما ذكرتم أنه يستلزم التسلسل ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم التسلسل الممتنع أو الجائز فإن عنيتم الأول منع اللزوم وإن عنيتم الثاني منع انتفاء اللازم فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن بل واجب وفي الآثار الماضية فيه قولان للناس والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال فهذا غير ممتنع إذا عرف هذا فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها وهذا جائز بل واجب باتفاق المسلمين ولم ينازع إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة فإن قيل فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدا قيل بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائما وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه ثم يلزم من حصول محبوبه محبوب آخر يفعل لأجله وهلم جرا حتى لو تصور دوامه أبدا لكانت هذه حاله وكماله فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد شيء وهذا هو الكمال الذي يريده مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه وهل الكمال إلا ذلك وفواته هو النقص وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته فلا يكون إلا رحيما محسنا وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبه ويرضاه لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها فهذا يفعله سبحانه ولا بد من وجوده وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم ولا يشاء خلقه وتكوينه ففرق بين ما يريد خلقه وما يأمر به ولا يريد خلقه فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله وما يريد من المأمور أن يفعله فرق واضح والله سبحانه له الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله ومتعلقه أفعال عباده وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعين عبده على فعل ما أمره لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور لما له من الحكمة الثابتة في هذا الأمر وهذا الترك يأمره لئلا يكون له عليه حجة ولئلا يقول ما جاءني من نذير ولو أمرتني لبادرت إلى طاعتك ولم يرد من نفسه إعانته لأن محله غير قابل لهذه النعمة والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها وأن تمنع من أهلها قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقال: {لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقال: {لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} ولا يقال فهلا سوى بين خلقه في جعلهم كلهم أهلا لذلك فإن هذا ممكن له ولا أن يقال فهلا سوى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم وهذا وإن كان ممكنا فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته فاقتضت حكمته أن سوى بينهم في الأمر وفاوت بينهم في الإعانة عليه كما فاوت بينهم في العلوم والقدر والغنى والحسن والفصاحة وغير ذلك والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته بل هي من أدل شيء على كمال حكمته ولولاها لم يظهر فضله ومنه قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فضلا من الله ونعمة والله عليم بمن يصلح لهذه النعمة حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا