وما دل عليه السمع والعقل من ذلك، أما الكسب فأصله في اللغة الجمع قاله الجوهري وهو طلب الرزق يقال كسبت شيئا واكتسبته بمعنى وكسبت أهلي خيرا وكسبت الرجل مالا فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل والكواسب الجوارح وتكسب تكلف الكسب انتهى والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه أحدها عقد القلب وعزمه كقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما عزمتم عليه وقصدتموه وقال الزجاج: "أي يؤاخذكم بعزمكم" على أن لا تبروا وأن لا تتقوا وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة وأنها تقتضي تعذيبا فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان اليمين والقول الأول أصح وهو قول جمهور أهل التفسير فإنه قابل به لغو اليمين وهو أن لا يقصد اليمين فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده وعزمه كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} فتعقيد الإيمان هو كسب القلب الوجه الثاني من الكسب: كسب المال من التجارة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} فالأول للتجار والثاني للزراع والوجه الثالث من الكسب: السعي والعمل كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} : {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فهذا كله للعمل واختلف الناس في الكسب والاكتساب هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق فقالت طائفة معناهما واحد قال أبو الحسن علي بن أحمد وهو الصحيح عند أهل اللغة: "ولا فرق بينهما" قال ذو الرمة:
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
وقال الآخرون الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ولا يقال يكتسب قال الحطيئة:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
قلت: والاكتساب افتعال وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعى وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا مالها فيه اجتهاد واهتمام وأما الجبر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول أحدها: أن يغنى الرجل من فقر أو يجبر عظمه من كسر وهذا من الإصلاح وهذا الأصل يستعمل لازما ومتعديا يقول جبرت العظم وجبر وقد جمع العجاج بينهما في قوله:
قد جبر الدين الإله فجبر الأصل الثاني: الإكراه والقهر وأكثر ما يستعمل هذا على أفعل يقال أجبرته على كذا إذا أكرهته عليه ولا يكاد يجيء جبرته عليه إلا قليلا والأصل الثالث: من العز والامتناع ومنه نخلة جبارة قال الجوهري: "والجبار من النخل ما طال وفات اليد" قال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله ... عليه أبابيل من الطير تنعب