الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: من الآية159].
فأمره بالأخذ بالأسباب، وهي هنا الاستشارة في الأمور وتقليب النظر فيها، فإذا اطمأن قلبه وعزمت نفسه عليه توكل على الله في فعل ذلك، فهذا سيد المتوكلين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخل بشيء من الأسباب ... ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً يدله على طريق الهجرة، وكان يدَخر لأهله قوت سنة، وإذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، فالواجب على المسلمين أن يفهموا التوكل كما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة القول أن سنة الله جارية في إعمال الأسباب مع التوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم. ومن أمثلة القرآن على ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67} قال السعدي: ذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب. {وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فالمُقدَر لا بد أن يكون، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب. اهـ.
وترك الأسباب واعتقاد تعارضها مع التوكل على الله هو من مكائد الشطان كما روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان): أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم. قال: ألق نفسك من الجبل وقل: قُدَر علي. قال: يالعين! الله يختبر العباد، وليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل. اهـ.
وقد نقل ذلك ابن الجوزي في تلبيس إبليس وقال: ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب , وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى؛ لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة، فمنعه عطاء في المعنى، وكم زين للعجزة عجزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل، فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة، ومتى وُضِعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلاً بحكمة الواضع، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض، فإذا ترك الإنسان ذلك إهواناً بالسبب، ثم دعا وسأل، فربما قيل له: قد جعلنا لعافيتك سبباً فإذا لم تتناوله كان إهواناً لعطائنا، فربما لم نعافك بغير سبب
لإهوانك للسبب , وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه أي مزرعته وماء الساقية رفسه بمسحاة، فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر، فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعاً ولا عقلاً اهـ.
قال ابن مفلح في الآداب: قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله- الله هو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي يقدرها، فالالتفات إلى الأسباب