تأتي فيه بما أتى القدماء في فجر الإنسانية، عندما ازدهر هذا الفن على نحو ساذج، خالٍ من التعقيدات العقلية والفنية، ولعل هذا يفسر الملاحم الحديثة التي حاولها عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر، فطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة، كالإلياذة في الغرب، والماهبهاراتا والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس.

وإن كانت بعض الملاحم قد امتد بها العمر زمنًا انتقلت فيه من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي النثري كما حدث في ملحمة عنترة، فإن الملحمة الشعبية هي الأخرى آخذة في الانقراض.

وهكذا يصبح مجرد التفكير في كتابة الملاحم في عصرنا الحديث ضربًا من المجازفة، يتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية، فكيف لمثل هذا الشاعر -الذي يحلم به هؤلاء الدارسون- أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة، والسذاجة الساحرة، التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة؟!

وجملة القول: إن الأدب العربي يخلو تمامًا من شعر الملاحم بصفاته وشروطه وقواعده المعروفة له، وأن شعر الحماسة -بما في ذلك شعر الفتوح الإسلامية الذي نُعْنَى بدراسته هنا- لا يدخل في هذا الضرب من الشعر لمجرد كونه شعرًا حربيًّا، يُعنى بتصوير المعارك والالتحام، كما أنه لا ترتبط بهذا الضرب صلة ما تخول لبعض الدارسين أن يفترضوا أن أشعار العرب المفرقة في أيامهم ومعلقاتهم، وغزوات نبيهم وفتوحاتهم تكون ملحمة كبرى للعرب؛ ذلك لأن هذه الأشعار في مجموعها تدخل في باب الشعر الغنائي، الذي يُعنى الشاعر فيه بتغني عواطفه ووجدان قومه وجماعته كما يشعر به، ويصور أحداثًا يعيشها، بينما يُعنى شعر الملاحم باستدعاء أحداث خارقة عظيمة قديمة ومغرقة في القدم؛ ليحكيها في إطار من التلفيق والخرافية والتهويل، ويشبع فيها جوًّا أسطوريًّا يصور طفولة الأمة في فجر الإنسانية.

وإن كان قد فات العرب لأسباب معينة أن يحفلوا بهذا اللون، فمن العجيب أن نحاول إثبات معرفتهم به بطرق متعفسة، أو أن نحاول الاعتذار عنهم والتماس الحجج لهم، كأنما كان من المفروض عليهم أن تكون لهم ملاحم شعرية.

وسوف نرى أن شعر الفتح قد صور بالرغم من كل هذا أحداث الفتوح ومشاعر الفاتحين تصويرًا رائعًا، يمكن أن يكون كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأبناء بعد الآباء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015