وفاة عمران (رغم أنه سرحها من قبل لأنه لم يشأ أن يساكن من لا يحبه) فقالت له جمرة: مكانك حتى أخرج إليك، ودخلت مخدعها ثم خرجت وهي تلبس مطرفاً كان لعمران، وقد لاثت على رأسها عمامة، فلما سألها سويد لم فعلت ذلك قالت: إني سمعت خليلي أبا شهاب يقول:
وتلبس يوماً عرسه من ثيابه ... إذا قيل هذا يا فلانة خاطب فأحببت أن أصدق قول أبي شهاب بلبسي هذا من ثيابه؛ ثم أمرته بالإنصراف لأنها لا تريد زوجاً بعد عمران.
وليس لقصتين من قيمة كبيرة إلا في دلالتهما معاً على مدى العلاقة الطيبة التي قامت بين الزوجين، وهي علاقة يؤكدها الشعر نفسه، فالشاعر الذي لم يكن يستجيز المدح، يمدح زوجه؟ دون أن يكذب، بخلات صدق فيها:
يا جمر إني على ما كان من خلقي ... مئن بخلاتٍ صدق كلها فيك
الله يعلم أني لم أقل كذباً ... في ما أقول وأني لا أزكيك فأما قصة تعرض جمرة لمن يخطبها بعد وفاة عمران، فربما كانت قضية السن تحول دون أخذها على علاتها، غير أنها تؤكد ما كان لدى جمرة أيضاً من حب ممتزج بالوفاء.
ولكن هذا الحب لم يكن يمنع جمرة من أن تنتقد زوجها إذا حاد عن مبدأه، حتى أصبحت في حياته موجهاً كبيراً؛ وإذا كان الشعراء الآخرون من الزهاد يلتفتون إلى نفوسهم ويناجونها ويعرضون عليها آلامهم، فإن جمرة في شعر عمران حلت محل النفس، فإليها يجهر الشاعر بحيرته، وإليها يفزع حين يشعر بمآسي الحياة من حوله، وإليها يتحدث بآرائه وعقديته، وبين يديها يبكي إخوانه الذي كانت تبتلعهم الحروب. ولو عرفنا عن طفولة عمران شيئاً واضحاً لاستطعنا أن نفسر هذا التعلق، وربما لم نتردد حينئذ في أن نقول: إنه وجد في جمرة أماً جديدة، تحققت على يديها عودته إلى الطفولة. فلم تكن جمرة رقيباً قاسياً وإنما