شعب الايمان (صفحة 235)

167 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ فِي التَّارِيخِ، حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ -[332]- بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو مَرْوَانَ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنَاهُ، سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ: " أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: " الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ " كَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ يَقُولُونَ فَذَكَرَ مَعْنَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ.

168 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَرُوبَةَ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، فَذَكَرَهُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " مَشْيَخَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ -[333]- بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَكَابِرُ التَّابِعِينَ، وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، -[335]- وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فِي مَشْيَخَةِ أَجِلَّةٍ سِوَاهُمْ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، وَمِنْهُ كَانَ يَأْخُذُ جَهْمٌ، فَذَبَحَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ الْأَضْحَى " قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللهُ: " لَوْ كَانَ كَلَامُ الْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ مُحْدَثًا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِهِ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِجَهْلٍ، وَآفَةٍ مَانِعَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَّا صَحَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالٍ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ لَوْ كَانَ لَمْ يَزَلْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَوَجَبَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لِمَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ أَضْدَادُ الْكَلَامِ مِنَ السُّكُوتِ، وَالْخَرَسِ وَالطُّفُولِيَّةِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كَلَامُ اللهِ سُبْحَانَهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا، كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِضِدِّهِ قَبْلَ خَلْقِهِ لَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَخْلُوَ الْحَيُّ مِنَ الْكَلَامِ وَضِدِّهِ، وَضِدُّ الْكَلَامِ لَوْ كَانَ قَدِيمًا، لَمْ يَجُزْ عَدَمُهُ وَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى إِحَالَةِ، وَصْفِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْخَبَرِ وَذَلِكَ خِلَافُ الدِّينِ، -[336]- وَلِأَنَّ الْكَلَامَ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّ خَلْقَهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ فِي لَا شَيْءَ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي لَا شَيْءَ لِأَنَّهُ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ، لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَكَانَ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ بِأَخَصِّ، أَوْصَافِهِ كَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ، وَحَيَاةٌ إِذَا خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ، وَلَا أَمْرًا لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ كَلَامًا لَهُ كَمَا يَكُونُ فِعْلُهُ تَفُضَّلًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ قِيلَ: التَّفَضُّلُ هُوَ اسْمٌ يَعُمٌّ أَجْنَاسًا، وَنَحْنُ قُلْنَا يُضَافُ إِلَيْهِ بِأَخَصِّ أَوْصَافِهِ، فَإِنْ كَانَ قُوَّةً أُضِيفَتْ إِلَى مَا خُلِقَتْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ سَمْعًا وَبَصَرًا، فَكَذَلِكَ فَقُولُوا: بِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ بِلَفْظِ الْكَلَامِ، وَالْقَوْلِ فَإِنْ لَمْ يُضِيفُوهُ لَا بِالْأَخَصِّ وَلَا بِالْأَعَمِّ، وَلَا إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا إِلَى الْمَحَلِّ فَقَدِ افْتَرَقَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، إِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَانَ لَمْ يَزَلْ خَبَرًا {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] نُوحٌ، وَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ ذَلِكَ كَذِبٌ قِيلَ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: {وَقَالَ: الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ، وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدُ، أَفَهُوَ كَذِبٌ؟ فَإِنْ قَالَ: مَعْنَاهُ سَيَقُولُ قِيلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] فِي أَزَلِهِ خَبَرًا عَنْ أَنْ سَنُرْسِلَ نُوحًا قَبْلَ إِرْسَالِهِ، فَإِذَا أَرْسَلَ يُكَذِّبُ خَبَرًا عَنْ إِرْسَالِهِ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْدِثَ خَبَرًا، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ الدُّنْيَا عِلْمُهُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَحْدُثْ عِلْمٌ إِنَّمَا حَدَثَ الْمَعْلُومُ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ دُونَ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ. فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ لَمْ يَزَلْ آمِرًا، وَأَمْرُ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مُحَالٌ قِيلَ: مَنْ قَالَ: مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَزَلْ آمِرًا فَهُوَ يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ آمِرًا، لَهُ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى إِذَا خُلِقْتَ وَبَلَغْتَ، وَكَمُلَ عَقْلُكَ، فَافْعَلْ كَذَا كَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، -[337]- وَمَنْ قَالَ: لَمْ يَزَلْ غَيْرَ آمِرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَلَامُهُ أَمْرًا لِحُدُوثِ مَعْنًى فَنَقُولُ: لَا يَجِبُ إِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامًا لِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ يُفِيدُ مَعَانِيَ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَنْفِي السُّكُوتَ وَالْخَوْصَ، وَيَكُونُ أَمْرًا لِعِلَّةِ الْإِفْهَامِ أَنْ كَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ هَاذِيًا إِذْ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ أَحَدٌ قِيلَ أَلَيْسَ الْمُسَبِّحُ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ أَحَدٌ؟، وَلَا يَكُونُ هَذْيًا، فَإِنْ قِيلَ اللهُ يَسْمَعُهُ، قِيلَ فَهُوَ يَسْمَعُ الْهَذَيَانِ أَيْضًا، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَيَانًا، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْهَذَيَانِ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا يُفِيدُ، وَكَلَامُ اللهِ يُفِيدُ الْمَعَانِيَ الْجَلِيلَةَ، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِالْحُرُوفِ، وَتَأَخُّرِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَدَثِ، وَكَلَامُ الْبَارِي لَيْسَ بِحُرُوفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ يُسْمَعُ، وَتُفْهَمُ مَعَانِيهِ، وَالْحُرُوفُ تَكُونُ أَدِلَّةً عَلَيْهِ كَمَا تَكُونُ الْكِتَابَةُ أَمَارَاتِ الْكَلَامِ، وَدَلَالَاتٍ عَلَيْهِ، وَكَمَا يُعَقِّلُ مُتَكَلِّمًا لَا مَخَارِجَ لَهُ، وَلَا أَدَوَاتَ كَذَلِكَ يُعَقِّلُ لَهُ كَلَامًا لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ، وَقَوْلُهُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ فِي الْأَذْكَارِ ذِكْرًا غَيْرَ مُحْدَثٍ مَا كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَهُ رَأْسٌ مَا كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ إِذْ لَا يَخْلُو مِنْهُ رَجُلٌ، وَمَعْنَى الذِّكْرِ كَلَامُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ نَفْسُ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْحِفْظُ فَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِحْكَامِ، وَإِلَى الْقِرَاءَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَلَامِ لَا إِلَى عَيْنِ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ التَّبْعِيضُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِرَاءَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ اللهِ غَيْرُ اللهِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] يُرِيدُ بِهِ سَمَّيْنَاهُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] يَعْنِي وَصَفُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا " -[338]- قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42]، وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20]، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَيْ قَوْلٌ تَلَقَّاهُ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَوْ قَوْلٌ سَمِعَهُ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ إِذْ نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ رَسُولٌ كَرِيمٌ، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: 6] فَأَثْبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَكَلَامُ جِبْرِيلَ مَعًا، فَدَلَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ تَكْذِيبُ الْمُشْرِكِينَ، فَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ مِنْ وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَدْ أَخْبَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ مُعْجِزُ النَّظْمِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْإِعْجَازُ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا يَقَعُ فِي قِرَاءةِ الْقُرْآنِ، فَنَظْمُ حُرُوفِهِ وَدَلَالَاتُهُ فِي عَيْنِ كَلَامِهِ الْقَدِيمِ، وَلَمَّا كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَاجِزَيْنِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَالْمَلَائِكَةُ أَيْضًا عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ نُظُومِ كَلَامِ النَّاسِ، وَلَا يُهْتَدَى إِلَى وَجْهِهِ لِيُحْتَذَى، وَيُمَثَّلُ وَهُوَ كَتَرْكِيبِ الْجَوَاهِرِ لِتَصِيرَ أَجْسَامًا، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ إِذْ كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحَدِّي عَلَيْهِ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ لِأًنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا أَبَانَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ جِبْرِيلَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. -[339]- الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَبَيَانُهُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنَ حِفْظَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41] فَمَنْ أَجَازَ أَنْ يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ نُقْصَانِهِ مِنْهُ، أَوْ تَحْرِيفِهِ فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ فِي خَبَرِهِ، وَأَجَازَ الْخُلْفَ فِيهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ دِينِهِ، وَيَقِينٍ مِمَّا هُوَ مُتُمَسِّكٌ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْمَنُ، أَنْ يَكُونَ فِيمَا كُتِمَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ ضَاعَ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ تَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ، وَبَسَطَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الْكَلَامَ فِيهِ، فَصَحَّ أَنَّ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ جَمِيعَهُ هُوَ هَذَا الْمُتَوَارَثُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ لَا زِيَادَةَ فِيهِ، وَلَا نُقْصَانَ مِنْهُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ "

طور بواسطة نورين ميديا © 2015