وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ " " وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَتَشَعَّبُ شُعَبًا، فَأُولَاهَا: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ مِنْ وَضْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ وَضْعِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، والثَّانِيَةُ: الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ مُعْجِزُ النَّظْمِ لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ، وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَالثَّالِثَةُ: اعْتِقَادُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ الَّذِي تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ هُوَ هَذَا الَّذِي فِي مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَفُتْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يُضَعْ بِنِسْيَانِ نَاسٍ وَلَا ضَلَالِ صَحِيفَةٍ، وَلَا مَوْتِ قَارِئٍ، وَلَا كِتْمَانِ كَاتِمٍ، وَلَمْ يُحَرَّفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ حَرْفٌ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ -[327]- حَرْفٌ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وَقَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155] وَقَالَ: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: 193] وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وَمَعْنَاهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنْزَلْنَا الرَّسُولَ الْمُودَّى لَهُ بِهِ فَيَكُونُ الرَّسُولُ مُنْتَقِلًا مِنْ عُلُوِّ إِلَى سُفْلٍ مُؤَدِّيًا لِلْكَلَامِ الَّذِي حَفِظَهُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْتَقِلًا بِهِ مِنْ مَقَامِهِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْأَرْضِ مُوَدِّيًا لَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، وَقَالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فَفَصَلَ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا، لَمْ يَكُنْ لِتَفْصِيلِهِ مَعْنًى، وَقَالَ: {لَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19]، وَالسَّبْقُ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي سَبْقَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ، وَقَالَ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} [النحل: 40]، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ مَخْلُوقًا تَعَلَّقَ بِقَوْلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِمَا لَا -[328]- يَتَنَاهَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ " قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا مِنَ السُّؤَالِ: " الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُنْقَلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ " كُنْ " أَمْرُ تَكْوِينٍ لِلْمَعْدُومِ لَا أَمْرُ تَكْلِيفٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء: 50]، وَ {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: كُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَكُونُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ إِلَّا كَانَ كَمَا يَكُونُ نَفْسُهُ سَامِعًا لِلصَّوْتِ وَقْتَ وُجُودِ الصَّوْتِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ سَامِعًا أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْتِ وَقْتَ وُجُودِهِ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ حِينَئِذٍ لَا قَبْلَهُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَيَكُونُ} [النحل: 40] لَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْقِيبِ، مَعَ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ إِنَّمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ قَوْلُهُ كُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَكُونُ إِلَّا كَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِيهَا، وَأَنْ لَا يُوجُبَ اسْتِقْبَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، مَعْنَاهُ: وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي اسْتِقْبَالًا قُلْنَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ لِنَفْسِهِ، وَنَفْيِ النَّفَادِ عَنْهُ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فذكره بِالتَّكْرَارِ، وَأَخْبَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا كَلَّمَ بِهِ مُوسَى فَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]-[329]- وَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي، وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]. فَهَذَا كَلَامٌ سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ بِإِسْمَاعِ الْحَقِّ إِيَّاهُ بِلَا تُرْجُمَانٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَدَعَاهُ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَاصْطَفَاهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ زَعَمَ إِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَدَعَا مُوسَى إِلَى وَحْدَانَيَّةِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ دَعَا إِلَى اللهِ، كَذَّبَهُ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَإِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعْبُدْنِي}، وَلَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ يَقُولُ: رَبِّي وَرَبُّكَ، فاعْبُدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِمَّنْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، عَلَى أَنَّ مُوسَى كَانَ مَخْصُوصًا بِفَضْلِ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ كَانَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاصِيَّةُ، وَلَا شَبَهٌ أَنْ يَكُونَ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ أَكْثَرَ خَاصِيَّةً مِنْهُ لِزِيَادَةِ فَضْلِ جِبْرِيلَ عَلَى صَوْتٍ يَخْلُقُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَقْتِ لِمُوسَى، وَقَدْ رُوِّينَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى قَالَ: " فَقَالَ آدَمُ لِمُوسَى: أَنْتَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ " "