نعم، يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "فإن قل عدده" يعني إن قل عدد رجال الإسناد "فإما أن ينتهي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى إمام ذي صفة علية كشعبة، فالأول هو العلو المطلق، والثاني النسبي"، رجال الإسناد الموصل إلى المتن يتفاوتون من حديث إلى آخر قلة وكثرة، فبعض الأحاديث تروى بأسانيد قليلة، رجالهم عددهم قليل، وبعضها بأسانيد تطول ويكثر الرواة فيها، فالأول يسمى عند أهل العلم بالعالي، والثاني يسمى بالنازل، فالعالي ما قل عدد رواته، ما قَلَّت فيه الوسائط بين المصنف وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنازل: ضده ما كثر عدد رواته وكثرت الوسائط فيه بين المصنف والنبي -عليه الصلاة والسلام-، والمراد بقلة الرواة هنا بالنسبة إلى أي سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه بعدد أكثر، وقد عظمت رغبة المتأخرين في العلو حتى غلب ذلك على كثير منهم، بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه من الثبوت والفهم والاستنباط، وإنما كان العلو مرغوباً فيه لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ؛ لأنه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان التجويز، وكلما قلت قلت" قاله الحافظ، يعني ما من راوٍ من الرواة إلا ويحتمل أنه أخطأ فإذا كان عدد الرواة قليلاً كان الاحتمال قليلاً، وإذا كان عدد الرواة كثيراً كان هذا الاحتمال كثير.
قال ابن الصلاح: "طلب العلو سنة، ولذلك استحبت الرحلة في الحديث"، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف"، وقد روينا أن يحيى بن معين قيل له في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: "بيت خالي وسند عالي" هذه أمنيته، بيت خالي وسند عالي، بيت خالي ليخلو بربه، ويأنس بمناجاته وذكره، وسند عالي هذه غايته في هذه الدنيا، مش يتمنى .. ، يتمنى طول عمر، يتمنى قصور وضياع ومزارع، يتمنى أرصدة، لا، لا يتمنى هذا كله؛ لأن الدنيا لا شيء، لا تزن عن الله جناح بعوضة، والغنى الحقيقي غنى النفس، والله المستعان.