- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
وَلَمَّا أَنْهَى الْمُؤَلِّفُ الْكَلَامَ عَلَى الْقُرَبِ الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَاعْتِكَافٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَدْيٍ وَشِبْهِهِ مِنْ أُضْحِيَّةٍ وَعَقِيقَةٍ وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى رَأْيٍ تَنْقَسِمُ إلَى قَسَمٍ وَالْتِزَامِ قُرْبَةٍ ذَيَّلَ أَبْوَابَ الْقُرَبِ بِبَابِ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْقُرَبِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ
(بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ الْيَمِينُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا)
وَهُوَ بَابٌ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ لِكَثْرَةِ وَقَائِعِهِ وَتَشَعُّبِ فُرُوعِهِ. وَالْيَمِينُ وَالْحَلِفُ وَالْإِيلَاءُ وَالْقَسَمُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ وَالْيَمِينُ مُؤَنَّثَةٌ فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ» الْحَدِيثَ وَتُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ أَيْضًا وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا وَضَعَ أَحَدُهُمْ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ صَاحِبِهِ فَسُمِّيَ الْحَلِفُ يَمِينًا لِذَلِكَ وَقِيلَ الْيَمِينُ الْقُوَّةُ وَيُسَمَّى الْعُضْوُ يَمِينًا لِوُفُورِ قُوَّتِهِ عَلَى الْيَسَارِ وَلَمَّا كَانَ الْحَلِفُ يُقَوِّي الْخَبَرَ عَنْ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ سُمِّيَ يَمِينًا فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْتِزَامُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالَفَةِ يَمِينًا بِخِلَافِهِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَانْظُرْ تَعْرِيفَهَا شَرْعًا لِابْنِ عَرَفَةَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَحَدَّهَا الْمُؤَلِّفُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْحَاوِي الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ (ص) الْيَمِينُ تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ (ش) أَيْ ثُبُوتُ وَلُزُومُ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ وَاجِبًا أَيْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ يَعْنِي أَنَّ الْيَمِينَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ
بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ الْيَمِينُ) (قَوْلُهُ عَلَى الْقُرَبِ) أَيْ عَلَى مُعْظَمِ الْقُرَبِ إذْ بَقِيَ الْجِهَادُ (قَوْلُهُ مِنْ صَلَاةٍ إلَخْ) بَيَانٌ لِلْقُرَبِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَأَرَادَ بِالْمَنْدُوبِ مَا يَشْمَلُ السُّنَّةَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً وَتَارَةً تَكُونُ مَنْدُوبَةً وَكَذَا الصَّوْمُ وَكَذَا الْحَجُّ وَكَذَا الزَّكَاةُ بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلصَّدَقَةِ وَحَذَفَهَا وَالْأَوْلَى ذِكْرُهَا وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلَيْسَتْ إلَّا مَنْدُوبَةً وَكَذَا الْأُضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَنْقَسِمُ فِي الْجُمْلَةِ (قَوْلُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) أَيْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَوْلُهُ مِنْ أُضْحِيَّةٍ بَيَانٌ لِلشَّبَهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ وَالْعَقِيقَةَ لَيْسَا مُتَعَلِّقَيْنِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْأُضْحِيَّةَ مُتَعَلِّقَةً بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي أَيَّامِهِمَا وَتَسَمَّحَ فِي الْعَقِيقَةِ (قَوْلُهُ وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى رَأْيِ إلَخْ) أَيْ رَأْيِ غَيْرِ ابْنِ عَرَفَةَ وَأَمَّا رَأْيُ ابْنِ عَرَفَةَ فَتَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةٍ: قَسَمٌ كَوَاللَّهِ وَالْتِزَامٌ مَنْدُوبٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الْقُرْبَةُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْبَةَ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الِامْتِنَاعَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ هَذَا قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَقَطْ وَكَذَا إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ مُعَلَّقٍ ذَلِكَ الْإِنْشَاءُ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ كَقَوْلِك إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ وَهُوَ مَقْصُودٌ عَدَمُهُ هَذَا فِي جَانِبِ الْبِرِّ وَإِنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ مُعَلِّقًا الطَّلَاقَ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ عَدَمِ الدُّخُولِ وَهُوَ الدُّخُولُ فَخَرَجَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ بَرِئَ أَيْ مِنْ مَرَضِهِ فَلَمْ يَقْصِدْ عَدَمَ الْبُرْءِ (قَوْلُهُ وَتَشَعُّبِ فُرُوعِهِ) أَيْ تَفَرُّقِهَا (قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ مُؤَنَّثَةٌ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ كَاذِبَةٍ (قَوْلُهُ الْحَدِيثَ) لَفْظُ الْحَدِيثِ «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ فَقِيلَ لَهُ وَلَوْ شَيْئًا قَلِيلًا قَالَ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» (قَوْلُهُ مَأْخُوذَةٌ) أَيْ مَنْقُولَةٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُمْ إلَخْ) عِلَّةٌ لِلنَّقْلِ وَالْعَلَاقَةُ الْمُجَاوَرَةُ (قَوْلُهُ وَقِيلَ الْيَمِينُ) أَيْ فِي الْأَصْلِ الْقُوَّةُ لَا الْعُضْوُ ثُمَّ نُقِلَتْ لِلْحَلِفِ وَلِلْعُضْوِ، وَالْعِلَّةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ كَلَامِهِ وَكَأَنَّهُ قَالَ وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْحَلِفُ مَنْقُولَةٌ (قَوْلُهُ لِوُفُورِ قُوَّتِهِ) أَيْ لِعِظَمِ قُوَّتِهِ (قَوْلُهُ عَنْ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ) أَيْ الْإِخْبَارِ عَمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِأَنَّك إذَا قُلْت قُمْت يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ أَوْ الْإِخْبَارُ عَنْ الْوُجُودِ كَمَا فِي قَوْلِك أَقُومُ وَقَوْلُهُ أَوْ الْعَدَمَ كَمَا فِي قَوْلِك لَا أَقُومُ (قَوْلُهُ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ) وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْيَمِينِ مَعْنَاهُ الْقُوَّةُ (قَوْلُهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالَفَةِ) أَيْ كَقَوْلِك إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ الْتَزَمْت الطَّلَاقَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالَفَةِ وَيَحْصُلُ دُخُولُ الدَّارِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِهِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْأَصْلِ الْعُضْوُ (قَوْلُهُ وَانْظُرْ تَعْرِيفَهَا شَرْعًا) أَمَّا لُغَةً فَقَدْ عَرَّفْته وَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ الْحَلِفُ وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ قَسَمٌ أَوْ الْتِزَامُ مَنْدُوبٍ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الْقُرْبَةُ أَوْ مَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ لَا يُغْتَفَرُ لِقَبُولِ مُعَلَّقٍ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ وَانْظُرْ تَوْضِيحَ ذَلِكَ فِي شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ (قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الْحَاوِي الشَّافِعِيِّ) كَذَا فِي نُسْخَتِهِ أَيْ فِيهَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ وَحَدَّهَا الْمُؤَلِّفُ أَيْ الْيَمِينَ لَا بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِمَعْنَى نَوْعٍ مِنْهُ وَهُوَ الْقَسَمُ (قَوْلُهُ تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ) عَادَةً أَوْ عَقْلًا وَاَلَّذِي لَمْ يَجِبْ عَادَةً أَوْ عَقْلًا شَامِلٌ لِمَا أَمْكَنَ عَادَةً وَعَقْلًا كَوَاللَّهِ أَقُومُ أَوْ أُصَلِّي وَإِنْ وَجَبَ شَرْعًا أَوْ اسْتَحَالَ عَادَةً وَعَقْلًا كَوَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ زَيْدًا الْمَيِّتَ بِمَعْنَى إزْهَاقِ رُوحِهِ لَا بِمَعْنَى جَزِّ رَقَبَتِهِ وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً وَيُمْكِنُ عَقْلًا كَقَوْلِك وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْبَحْرَ وَلَا يُعْقَلُ الْقَسَمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ عَادَةً مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا إذْ كُلُّ مُسْتَحِيلٍ عَقْلًا مُسْتَحِيلٌ عَادَةً وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَجِبْ مَا وَجَبَ عَادَةً وَعَقْلًا كَوَاللَّهِ إنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَوْ وَجَبَ عَادَةً لَا عَقْلًا كَوَاللَّهِ إنَّ جَبَلَ الْجُيُوشِيِّ حَجَرٌ وَلَا يُعْقَلُ الْقَسَمُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَوْنُهُ وَاجِبًا عَقْلًا لَا عَادَةً إذْ كُلُّ مَا وَجَبَ عَقْلًا وَجَبَ عَادَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَاضِي لَا تُكَفَّرُ لِأَنَّهَا إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ صَادِقَةٌ، وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُسْتَقْبِلِ تُكَفَّرُ وَلَوْ لَغْوًا أَوْ غَمُوسًا، وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَالِ: تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ غَمُوسًا وَلَا تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ لَغْوًا. وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ
كَفِّرْ غَمُوسًا بِلَا مَاضٍ تَكُونُ كَذَا ... لَغْوٌ بِمُسْتَقْبَلٍ لَا غَيْرُ فَامْتَثِلَا
(قَوْلُهُ ثُبُوتٌ) الْأَوْلَى تَثْبِيتٌ