أولاً: مسألة التورق، هذه المسألة الحق فيها مع ابن تيمية خلافاً لجماهير أهل العلم من الشافعية والأحناف والمالكية وكثير من الحنابلة، فهم قالوا: يصح التورق، ومعنى التورق: أن يشتري المرء سلعة لا ينوي استعمالها وإنما أخذها لسيولة المال، فأخذها بألف نسيئة فباعها بخمسمائة نقداً أو بمائة نقداً أو بثلاثمائة نقداً لغيره، أما إن باعها من نفس البائع فهذه العينة، لكن المسألة التي خالف فيها شيخ الإسلام هي: التورق، والتي فيها أنه باع السلعة لغير البائع، فجمهور الفقهاء أن هذه المسألة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا يسمى بيعاً.
وأيضاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) وهنا حدث التراضي في البيع والشراء.
واستدلوا أيضاً بحديث فقالوا: عندنا حديث فصل في النزاع وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجل بالتمر الجنيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بصاعين.
فتأوه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أوه! عين الربا لا تفعل) ثم فتح له الباب وقال: (بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً).
فهم يقولون: هذا الحديث فصل في النزاع.
أقول: نحن مع ابن تيمية فنذكر كلامه: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفقه متنه.
ونقول لهم: ما وجه الدلالة من الحديث؟ قالوا: خرج من الربا، وهو ما كان المقصود منه الانتفاع بالتمر هذا ولا بالدراهم بحال من الأحوال، وهو إنما يريد التمر بالتمر فأدخل بينهما دراهم، وهذا ما يريد إلا الدراهم فأدخل بينهما ثلاجة أو سيارة، فهذا نص في محل النزاع كما قالوا.
وقالوا: عندنا أيضاً دليل من النظر وهو: أن الذي اشترى السلعة ما اشتراها إلا لينتفع بها، ووسائل الانتفاع كثيرة منها: الاستعمال.
ومنها: البيع والشراء.
ومنها: أخذ ثمنها، فقالوا: هذا اشتراها لينتفع بالثمن لا لينتفع بالاستعمال.
هذا من النظر.
إذاً: فعندهم أثر ونظر.
فجاء شيخ الإسلام فخالفهم وقال بعدم جواز التورق، ويقول ابن القيم: وروجع شيخنا في هذه المسألة كثيراً حتى يرجع عن قوله وما رجع، يعني: ابن تيمية، فقد أقاموا عليه الدنيا وما أقعدوها من أجل هذه الفتوى وما رجع؛ لأنه كان يدين لله جل في علاه.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ثم ننظر إلى أدلة شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة؛ لنعرف دقة فهم ابن تيمية، قال: إن العبادات والمعاملات والعقود كلها تدور على النيات، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل يتورق، وينتوي الورق والمال والدراهم، وما ينتوي السلعة، فصورته صورة رجل جلس في مجلس فأعطى عشرة دراهم بخمسة دراهم.
انظر هنا الآن ابن تيمية يبين لنا (إنما الأعمال بالنيات)، قلنا: ما وجه الدلالة من هذا الحديث؟ قال: وجه الدلالة أن الرجل لا ينتوي السلعة ولا الانتفاع بالسلعة، بل ينتوي المال، فصورة التعامل وصورة الصرف: ذهب بذهب دون المساواة، فاختل شرط، كأنه باع عشرة دراهم بخمسة دراهم، أو أعطى الألف مقابل الخمسمائة، فاعتبرت الصورة أنه أعطى دراهم بدراهم دون المساواة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ربا إلا مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد) فقال: (يداً بيد) فلا بد من التقابض في المجلس، وهنا حدث التقابض في المجلس لكن صورته أنه لم تتوافر المثلية، فهو أعطى الألف بالخمسمائة قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ثم إنه أوضح هذا الفهم وضوحاً جلياً بنقله عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، لما صوروا له الصورة فقالوا: يشتري الرجل السلع بنقد بكذا، ويبيعها على غيره بنسيئة بكذا أقل، فهل يصح أن يشتري نسيئة ويبيع بنقد أقل؟ فقال له ابن عباس: والله ما هي إلا دراهم بدراهم بينهما حريرة.
يعني: التقابض في المجلس موجود لكن جعل بينها تحايلاً حريرة.
ثم قال ابن تيمية: وقد أبطل الله الحيل تأصيلاً عاماً في القواعد الشرعية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود؛ حرم الله عليهم شحوم الميتة فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) يقول: ابن تيمية: وهذا الحديث سيهدم لنا كل ما بناه الجمهور من قواعد.
يعني: هذا الحديث نص في النزاع بين ابن تيمية وبين الجمهور، فمسألة التورق خالف ابن تيمية جماهير أهل العلم فيها، وأتى بحديث فاصل في النزاع: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) ووجه الدلالة أن الله حرم عليهم أكل الشحوم، والأكل بالفم، فلو أكلوا الشحوم لوقعوا في الحرام، فهم أذابوه فباعوه، فيعتبر هذا أكلاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه أكلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وهذا نفس الأمر، فهو حرم عليهم أكل الشحوم فقالوا: ما أكلنا ولا استطعمناه ولا اشتممنا رائحته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أكلاً؛ لأنهم أكلوا ثمنه، فأبطل هذه الحيلة.
نعود إلى قول الجمهور لنطبق هذا الحديث عليهم، ونقول لهم: أنتم تقولون بحل التورق، وهذه هي الحيلة هنا وهي الصرف بزيادة وذلك حرام؛ لأن هذا ربا الفضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب ربا إلا يداً بيد مثلاً بمثل) فقال الجمهور: لو أخذنا الألف من زيد ورددناه عليه بألف وخمسمائة مثلاً فهذا يعتبر رباً وسيقوم الناس علينا، لكن لو أدخلنا حريراً وسمي بيعاً بدلاً من أن يسمى رباً، نقول: ولو سموه بيعاً فهو رباً، فهم احتالوا وقالوا: نشتري السلعة ما نريدها وإنما نريد الدراهم، فهو اشتراها بألف نسيئة فيعتبر كأنه دخل في الصرف دراهم بدراهم وليس ثمت مساواة.
وهذا الذي قاله ابن عباس، ووافقه عمر بن العزيز وقال: التورق أصل الربا؛ لأن فيه الحيلة على الله جل في علاه، وهذا الذي جعل إبراهيم بن أدهم يقول: ويحكم كيف تتعاملون مع الله؟ تتعاملون مع الله كأنه طفل صغير تتحايلون عليه، والعملة الزائفة لا تروج على الله جل في علاه.
إذاً: فالصحيح الراجح هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن هذه كما قالها البحر الحبر ابن عباس: هذه دراهم بدراهم بينهما حريراً، فالراجح هو: حرمة التورق.