علم شيخ الإسلام وفقهه وسعة حفظه

ندخل في أهم ساحات شيخ الإسلام ابن تيمية ألا وهي ساحة العلم، حق لنا أن نقول: إن ابن تيمية عالم فريد وحيد لم يأت مثله بعده؛ لأنه كان بحراً في العلوم وكان حبراً لهذه الأمة، ما من علم نجم في الساحة إلا وتعلمه ابن تيمية، وما جلس أصحاب كل علم مع ابن تيمية إلا قالوا: ما أتقن ابن تيمية إلا هذا العلم، في الفلسفة في المنطق في اللغة حتى إنه عودي؛ لأنه أخذ مآخذ على سيبويه، وسيبويه فحل اللغة فـ ابن تيمية استدرك عليه، ولذلك كانوا يأتونه من كل حدب وصوب، يتعلمون منه اللغة، وكان يعلم العقائد المختلفة عقائد اليهودية والنصرانية، وألف في ذلك التصانيف النافعة التي ترد على هذه العقائد، فألف كتاباً رد فيه على النصارى واسمه: (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح)، وألف كتاباً في الرد على الإثني عشرية وعلى القدرية واسمه: (منهاج السنة).

وأيضاً ألف الرسائل الكثيرة التي ترد على الأشاعرة، والفتاوى كلها موجودة تبين لنا كيف رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه العقائد، فـ ابن تيمية كان بحراً للعلوم ظهرت نجابته من صغره، فما قرأ شيئاً إلا حفظه، كما قيل عن الشافعي: إنه كان إذا فتح المصحف يضع يده على الصفحة التي لا يقرؤها حتى لا يحفظها فتختلط عليه بالصفحة التي يحفظها.

كذلك كان ابن تيمية إذا أخذ الورقة فقرأها يضعها، ويأت بها عن بكرة أبيها حفظاً، فسمع بنجابة ابن تيمية الطفل الصغير شيخ محدث حلبي، فذهب إلى دمشق وقال لبعض المعلمين: أين هذا الطفل الذي تسمونه ابن تيمية؟ فقال: عندما يمر مع الصبيان سأعرفك به، فجلس الرجل ساعة حتى مر ابن تيمية، فقال المعلم: أرأيت هذا الطفل الذي معه اللوح الكبير؟ هذا ابن تيمية، فذهب الحلبي إليه فقال: يا بني! تعال، فجاءه، فقال الحلبي: ما هذا؟ قال: هذا اللوح أكتب فيه قال: امسح ما فيه، فمسح ما فيه، فقال الحلبي: سأملي عليك بعض الأحاديث فهل تكتبها؟ قال: أكتبها، فأملى عليه متون أكثر من عشرة أحاديث وهو يكتب، فبعدما كتبها ابن تيمية قال: تردد علي هذه الأحاديث؟ فرددها عليه كأحسن ما يكون، فلما سمع هذه الأحاديث من هذا الطفل البارع النجيب وهو يسردها حفظاً بعدما كتبها في اللوح ونظر إليها مرة واحدة اندهش اندهاشاً عجيباً، ثم قال: امسح يا بني ما كتبت، فمسح الأحاديث، فقال: أملي عليك الأسانيد وهذه أعظم من الأولى؛ لأن متون الأحاديث لها نور، ومن السهل جداً أن تحفظ المتون، ولذلك أسهل كتاب على وجه الأرض يحفظ هو كتاب الله؛ لأن الله تعالى يسره لكل مدكر متذكر، فالقرآن سهل جداً أن تحفظه، وكذلك الأحاديث؛ لأن لها نوراً يدخل في القلوب.

فهذا الحلبي انتقى بعض الأسانيد المشكلة وأملى عليه هذه الأسانيد وهو يكتب الأسانيد، فبعدما كتب الأسانيد شيخ الإسلام ابن تيمية، قال الحلبي: تقرؤها علي؟ فوضع اللوح وسرد عليه هذه الأسانيد حفظاً، فقال: اعتنوا بهذا الطفل.

وانظروا إلى الإنصاف، فهو رجل عالم محدث يمكن أن يغار ويقول في نفسه: هذا الرجل قد يأخذ مني الأضواء فلا بد أن يطمس وأن يشوه وتدفن نجابته، ولكن كان من الذين يعملون للدين، فالعمل للدين له رونق آخر، فقال الشيخ المحدث: اعتنوا بهذا الطفل فلم أر مثله، فسيكون له شأن عظيم.

وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية علم الأعلام والفارس الهمام، فشيخ الإسلام ابن تيمية حافظته القوية وسرعة الحفظ جعلت ابن كثير يقول: الدنيا ما فيها إلا ثلاثة لا رابع لهم، فقال: أولهم وأبرعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني: ابن دقيق العيد، مع أن ابن دقيق العيد يعتبر من طبقات شيوخه، ثم ثلث بـ السبكي.

والسبكي كان بارعاً حافظاً فقيهاً أصولياً.

وقال ابن كثير أيضاً: ثلاثة من الناس ما رأيت مثلهم: ابن تيمية والمزي وابن دقيق العيد، وأحفظهم للمتون هو ابن تيمية، ولذلك قال ابن عبد الهادي: -الإحاطة لله فقط- حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا الذي قاله الذهبي في ذيل طبقات الحنابلة، فقد قال: حديث قال فيه ابن تيمية: لا أعرفه فليس بحديث؛ لسعة اطلاع الرجل، فـ ابن دقيق العيد يبين لنا أن ابن تيمية كأن الكتب الستة والمسند أمام عينيه، يأخذ ما شاء وينتزع ما شاء من الأدلة.

وكان ينتزع الآيات ويستدل بها على المسائل كأبرع ما يكون، فهو يستحضر الدليل في وقته، بينما الواحد منا لو سئل يظل يفكر ويذكر ويقول: ذكروني بالآية، والثاني يقول: ما هو متن الحديث؟! أما شيخ الإسلام فقد كانت الأسئلة تنهال عليه ويستحضر الدليل وينتزعه من كتاب الله جل في علاه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع استحضار أصل الدليل.

والمزي قليل من يعرفه، قال ابن كثير: وأفقههم في المتون ابن دقيق العيد يعني: كان أفقه ما يكون، فله كتاب إحكام الأحكام، أملاه ابن دقيق العيد إملاء، وإذا نظرت في كتاب ابن دقيق العيد رأيت الدرر.

إذاً: فـ ابن تيمية برع في ساحة العلم في كل شيء، ففي الحديث كان أوسع الناس حفظاً، كما قال الذهبي وغيره: الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بحديث، وكان ينتزع الحديث من المسند أو من الكتب الستة ويستحضره في أوانه.

وكان عالماً بالرجال وبالأسانيد، فترى في الفتاوى كثيراً ما يضعف ويصحح، لكن ما تخصص في علم الحديث استقلالاً، فهذا الرجل جمع الله له العلوم كلها، علم الحديث وعلم الفقه، أما إذا دخلت على علم الأصول فهو فارس الميدان يقعد ويؤصل، وقواعد ابن رجب ترى فيها درراً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية واختيارات ابن تيمية.

أما في الفقه فساحته، فلا يستطيع أحد أن ينازع ابن تيمية في الفقه، فقد كان العلماء يقولون: صعب علينا الفقه وسهل على ابن تيمية، نعم والله فقد كان يأتي بالفقه من القلب، كان يأتي بالمسائل الفقهية ويقربها للناس بعدما يبين المذاهب، وكان كثير من أهل المذاهب يناظرونه فيعيد كل صاحب مذهب لمذهبه، ويقول: أنت ما أتقنت هذه المسألة في المذهب، بل وهو طفل صغير يذكر بعض أهل السير: أنه جلس في مجلس كان فيه قاض من الشافعية وكان يتكلم في مسألة الاستعانة بالمشركين، فقال: إن الشافعي يرى جواز الاستعانة بالمشركين، وبعد ما سكت قام له شيخ الإسلام وقال: تجاوزت كلام الشافعي دون أن تأتي بشروطه وقيوده، فانزعج، كيف تتكلم معي في مذهب أنا مؤصله وأنا أتعلم على مذهب الشافعي؟ فقال: إن الشافعي ما أطلق الاستعانة بالمشركين، لكن قيد قيوداً واشترط شروطاً منها: أن يكون في المسلمين حاجة لأمثال هؤلاء الكفار، واشترط أن تنطوي راية الكفر تحت راية المسلمين وتحت لواء المسلمين، فلما ذكر له القيود رجع إلى كلام ابن تيمية، فالفقه ساحته وهو الذي برع فيه، وانظر في الفتاوى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015