وقد كان عابداً ناسكاً، وعبادة شيخ الإسلام ابن تيمية إذا محضت النظر فيها قلت: هذا الرجل قبر من قبور الصحابة انشق وخرج منه هذا الصحابي.
فقد كان عابداً لله جل في علاه بالعبادة الظاهرة، والعبادة الباطنة، عبادة الجوارح: بالجهاد في سبيل الله باللسان وبالسنان، وكان عابداً بالجوارح قواماً لليل صواماً للنهار، وعبادته في الباطن هي أجل العبادات التي قدمها ابن تيمية لنا نبراساً نأتسي به.
ويدل على ذلك كلام ابن القيم حين قال: كان إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب ذهبنا إلى ابن تيمية فنظرنا إلى وجهه فذهب عنا كل شيء.
سبحان الله! جعل الله رؤيته ذكراً لله، وجعل الله في رؤيته الأمان لعباد الله جل في علاه، قال: إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب، واشتد الخوف في قلوبنا ذهبنا إلى ابن تيمية، فنظرنا إلى وجهه فازددنا طمأنينة.
سبحان الله! وهذا من شدة ورع هذا الشيخ الكريم، ومن شدة عبادته وقربه من الله جل في علاه، ولك فيما قاله بيان جليٌ لشدة ورع وتقوى هذا الرجل وعبادته لله جل في علاه، فمن المعلوم أنه عندما يبزغ نجم عالم، أو طالب علم، أو رجل جعله الله نبراساً لأناس يأتسون به، لا بد من الحسد والحقد أن يغلي في الأوساط، ولا بد من بتره وقتله وطمس هويته، فكان ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأعظم لشيخ الإسلام لـ ابن تيمية؛ لأن الحساد كثر ل شيخ الإسلام؛ لأنه كان وحيد عصره بحق كما قال ابن دقيق العيد كما سنبين.
فكانت الوشاية كثيرة على شيخ الإسلام ابن تيمية، فكانوا يسجنونه ويجلدونه ويعزرونه ويعذبونه، حتى مات مظلوماً في سجن القلعة، فشيخ الإسلام ابن تيمية لما سجنوه قال كلمات تحفر في الصدور بماء الذهب، وهي تدل على عبادة هذا الرجل وقربه من الله جل في علاه ويقينه في أن ربه جل في علاه هو الرب القادر الكريم المليك لهذا الكون كله، الذي يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فقال: ماذا يريد أعدائي بي لو سجنوني فسجني خلوة بربي، أي: المراقبة والإحسان والتفكر والتدبر وذكر القلب؛ لأن ذكر القلب هو الذي يرتقي بالعبد، قال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
فـ شيخ الإسلام اعتنى بذكر قلبه، فكان يقول: لو سجنوني فسجني خلوة بربي، ونعم الأنيس جل في علاه.
ثم قال: ولو قتلوني فقتلي شهادة.
فهو يعلم أنه في وظيفة عظيمة في هذه الدنيا، وهي العبادة لله جل في علاه، ونشر دين الله جل في علاه، وتعبيد العباد لرب العباد.
ثم يقول: ولو نفوني فنفيي سياحة.
أي: أنظر في هذا الكون الشاسع، وأنظر إلى ربوبية الله جل في علاه، وعظمة خلق الله جل في علاه.
وكان ابن تيمية يتقرب من الله جل في علاه بالذكر الخفي حتى في أبواب العلم، قال: كنت إذا استغلقت علي مسألة ذهبت إلى مسجد مهجور أخلو فيه بربي، كما قال ابن القيم: إنه كان مسجداً مهجوراً وكان يمرغ نفسه بالتراب، فهو بذلك يبين أن بوابة الدخول إلى الله هو الذل لله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتذلل لربه ويخضع، فهو لما كان في غزوة بدر واشتد الأمر عليهم، وكاد المسلمون أن يفتنوا رفع يديه متذللاً خاضعاً متمسكناً لربه جل في علاه حتى سقط الرداء وهو يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدت).
فـ ابن تيمية كان يفقه ذلك ويعلم أن بداية الطريق الصحيح هو الذل التام والخضوع التام لله جل في علاه، وكيف لا؟ وهو الذي بين لنا أن ركني العبادة هما: غاية الحب، مع غاية الذل، فكان يمرغ نفسه في التراب ذلاً وخضوعاً لله جل في علاه، ثم يدعو مبيناً أن النعمة بأسرها بيد الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] فقال: اللهم يا معلم إبراهيم، ولذلك كان دائماً ما يقول: ليس مني شيء ليس بي شيء، الكل من الله جل في علاه، وكان يقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
وهذه الدعوة تدل على دقة نظر ابن تيمية وشدة تقربه من الله جل في علاه، فهو يخضع ثم ينسب النعمة لباريها، حتى ينال ما يريد من ربه جل في علاه.