ولذلك الشافعي رضي الله عنه وأرضاه ناصر السنة دخل عليه إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وكان إسحاق بن راهويه قد قال لـ أحمد: نترك ابن عيينة يقول: حدثني فلان عن فلان، ونجلس إلى هذا الحدث، فقال أحمد بن حنبل: لو فاتك العلم من عند هذا الرجل لن تجده عند غيره، فلما جلسا في مجلس الشافعي تكلم الشافعي في مسألة ديار مكة، هل تسكن؟ هل تباع؟ هل تشترى؟ هل تمتلك؟ -وهذا خلاف فقهي عريض- قال الشافعي: تمتلك ديار مكة، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً، فقيل له: (أتدخل في ديار عبد المطلب أو قيل: في ديار أبي طالب؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار).
قول النبي صلى الله عليه وسلم (وهل ترك لنا عقيل من دار)؛ لأن عقيلاً كان كافراً آنذاك وورث أباه أبا طالب، وأخذ وامتلك هذه الدور ثم باعها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لبيع عقيل: وهل ترك عقيل من دار، أو من ديار؟ فقال له إسحاق بن راهويه: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة: أنها ما كانت ترى ذلك، يعني: لا ترى سكن مكة، ولا ترى أن مكة تمتلك.
ولو قلنا بهذا القول الآن، لقلنا: إن كل هذه القصور التي تدور حول مكة لا يجوز أن يأخذوا عليها فلساً، وعليه فإنك إذا ذهبت أكبر وأعظم قصر وجلست فيه فستقول: الأجرة حرام هنا؛ فقد حرمت دور مكة أن تمتلك، وهذا قول الحنابلة، وعلماء الحجاز حنابلة خالفوا جميعاً عن بكرة أبيهم؛ لأنهم قالوا: ديار مكة لا تمتلك.
فقال إسحاق: رأيت عائشة تذهب إلى هذا، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن أبي الزبير أو قال عن ابن الزبير: أنه ما كان يرى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن ابن عباس: أنه كان لا يرى ذلك، فقال له الشافعي مؤدباً: من أنت؟ فقال: إسحاق بن راهويه، قال: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك -الكلام هذا في كتب التراجم- فقال له مؤدباً: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله! وتقول: قالت عائشة، وقال ابن الزبير، لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لهم أن يلقبوا الشافعي بناصر السنة، ولذلك لما كان جالساً في مجلسه ودخل السائل يسأله، ويقول: يا إمام! هذه المسألة ما تقول فيها؟ فقال مجيباً أحد طلبة الشافعي قال: قال فيها رسول الله كذا، فقال له: يا إمام! وانظروا فالجهلة في كل العصور متوافرون بفضل الله! تقول له: قال رسول الله! فيقول: لكن الشيخ قال كذا، فلا يمكن أن يترك قول الشيخ بحال من الأحوال؛ فقال: يا شافعي! تقول بهذا القول؟ فقال الشافعي: ولنعم ما قال، قال: أرأيتني خرجت من كنيسة، أرأيت في وجهي زناراً، ما لي لا أقول بقول رسول الله! يقول لك قال رسول الله! فكيف لا أقول بما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولنعم ما قال الشافعي، ولنعم ما نصر به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة حق عظيم.
ولقد أردت أن أقدم هذه المقدمة بين يدي الصارم المسلول على شاتم الرسول لتعرفوا عظم حق النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أن حق النبي صلى الله عليه وسلم هضم من بعد قرون الخيرية الثلاثة إلى يومنا هذا، فإن الناس الآن لا يعظمون رسول الله ولا يوقرونه؛ لأنهم لا يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يحاربون من يتقدم بين يدي شيوخهم فلا تكاد تجد أحداً يقول: لا آخذ إلا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أردت أن أقدم هذه المقدمة لأبين عظم حق شريعة الله جل في علاه، وعظم حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكتاب -كما قلت- له مختصران: فقد اختصره الدكتور صلاح الصاوي، واختصره أيضاً البعلي الحنبلي، لكن اختصار البعلي أوفر حظاً وأدق من اختصار الدكتور صلاح، وقد حظيت والحمد لله بهذه النسخة، وأصل الكتاب أكبر من ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية سنقدم له مقدمة نبين فيها حقه علينا.
فقد كان في المسألة الواحدة يأتي بحوالي خمسة عشر آية، أو بسبع آيات، وبكل الأحاديث التي تخص هذه المسألة، فجاء البعلي فهذب هذه المسائل، ويأتينا مثلاً في المسألة الواحدة بحجج ثلاث من الكتاب ومن السنة؛ حتى يختصر على طلبة العلم.