ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
لَنَا: أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ ; فَوَجَبَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَوَاطِعُ الشَّرْعِ نَادِرَةٌ ; فَاعْتِبَارُهَا يُعَطِّلُ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ. وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَافَّةِ، وَمُشَافَهَتُهُمْ وَإِبْلَاغُهُمْ بِالتَّوَاتُرِ مُتَعَذِّرٌ ; فَتَعَيَّنَتِ الْآحَادُ.
الْخَصْمُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ ; فَالْعَمَلُ بِهِ عَمَلٌ بِالْجَهْلِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ الشَّرْعِ وَالدُّخُولُ فِيهِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِالْمُعَارَضَةِ، بِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي التَّرْكِ، احْتِرَازًا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِ فِي نَفْسِهِ، الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، بِالظَّنِّ، وَفِيهِ خَطَرٌ، كَمَا قِيلَ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا. وَعَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ التَّعْطِيلِ تَمَسُّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كُلِّفَ إِبْلَاغَ مَنْ أَمْكَنَهُ إِبْلَاغُهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْمُعْتَمَدُ: أَنَّ نَصْبَ الشَّارِعِ عِلْمًا ظَنِيًّا عَلَى وُجُوبِ فِعْلٍ تَكْلِيفِيٍّ، جَائِزٌ بِالضَّرُورَةِ.
ثُمَّ الْمُنْكِرُ، إِنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ ; فَتَعَبُّدُهُ بِالْحُكْمِ بِالْفُتْيَا، وَالشَّهَادَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ، وَالْقِبْلَةِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الظَّنِّيَّاتِ، يَنْقُضُ قَوْلَهُ، وَإِلَّا ; فَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ يُبْطِلُهُ، ثُمَّ إِذَا أَقَرَّ بِالشَّرْعِ، وَعَرَفَ قَوَاعِدَهُ وَمَبَانِيَهُ وَافَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ» ، أَيْ فِي خَبَرِ الْآحَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ، أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ، هُوَ كَالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ بِهِ ; فَلِذَلِكَ قَدَّمْتُهُ عَلَى مَسَائِلِهِ، وَلَمْ أُدْرِجْهُ فِيهَا، وَكُلٌّ جَائِزٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَثَلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، أَيْ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ: اعْبُدُونِي بِمُقْتَضَى مَا يَبْلُغُكُمْ