تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ» .
تَنَزَّهْتَ، أَيْ: تَبَاعَدْتَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَمَادَّةُ ن ز هـ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الصِّحَاحِ» وَفُهِمَ مِنْ فُرُوعِ الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَاكَ. وَالْحِكْمَةُ: مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ، يَتَحَقَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْأَفْعَالِ وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، خَالِيَةً عَنِ التَّفْرِيطِ وَالتَّبْسِيطِ، آمِنَةً مِنْ لُحُوقِ الِاخْتِلَالِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَامِلَ الْحِكْمَةِ، لَمْ يَلْحَقْهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ نَدَمٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ كَمَالِ حِكْمَتِهِ تَامُّ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ وَسَيَكُونُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ النَّدَمُ، مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، خِلَافًا لِلْيَهُودِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَضِبَ عَلَى الْعَالَمِ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالطُّوفَانِ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَبَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ، فَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي الرَّمَدِ، وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ الشَّرَّ لَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسِفَ الرَّبُّ وَحَزِنَ قَلْبُهُ عَلَى خَلْقِهِ لِآدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَعَزَمَ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ فِيهَا مِنْ كُلِّ ذِي رُوحٍ إِلَّا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ وَجَدَ رَحْمَةً بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ الْعَالَمَ بِالطُّوفَانِ قَالَ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أُبِيدُ أَهْلَ الْأَرْضِ لِمَوْضِعٍ أَنَّ ضَمِيرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى الشَّرِّ مُذْ حَدَاثَتِهِ