أما الرد على الحنابلة والمالكية فيما استدلوا به، فإنهم استدلوا بالأثر بقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]، وقالوا: هذه دلالة على عموم الانتفاع بشعر الميتة، فنقول: هذه دلالة على الطاهرة وليست على النجسة، وقالوا للشافعية: وأنتم تستدلون بقول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173]، ووجه الدلالة منها العموم، ونحن دليلنا قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل:80]، والآية خاصة في الأشعار، وإذا تعارض العام والخاص قدم الخاص على العام، فقال الشافعية: الآية ليست عامة على الإطلاق، بل الآية عامة من وجه وخاصة من وجه، وأيضاً الآية عندنا عامة من وجه وخاصة من وجه، فلم نحمل خصوص وجهكم على عموم الآية التي نستدل بها؟ ولا نحمل خصوص وجهنا على عموم ما استدللتم به؟ فهم يستدلون بعمومها بقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا} [النحل:80]، ونقول: هذه الآية عامة، وهي مخصوصة بأدلة أخرى، من هذه الأدلة: قول جابر: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الأصنام والخمر والميتة)، وباتفاق العلماء على النجاسة فإنها تصير مخصوصة بهذا اللفظ، والمقصود: كل الميتة شعراً وعظماً وعصباً.
الثاني: تخصص الآية بمتصل، وأما هم فمخصوصها بمنفصل، فالآية تقول: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل:80]، و (من) يمكن أن تكون للابتداء وممكن تكون للتبعيض، ونحن نرجح هنا: أنها للتبعيض بالقرائن المحتفة وبالدليل المنفصل الذي أتينا به.
إذاً: من أشعارها في حال كونها حية لا ميتة، ونزاعنا في الميتة، فخصصنا عموم الآية بالحي وأنتم أردتم عمومها بالحي والميت.
إذاً: الآية مخصصة بمخصصين: مخصص متصل، ومخصص منفصل، فالمخصص المنفصل هو حديث: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة)، والعلة: النجاسة باتفاق العلماء، وأيضاً قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، أيضاً هذا مخصص منفصل.
أما المخصص المتصل فهو: قول الله تعالى: ((وَمِنْ أصوافها))، فـ (من) هنا للتبعيض، فنحمل الآية على أن معنى (وأشعارها) كونها حية وليست ميتة.
إذاً: الآية ليست في النزاع.
والدليل الأثري الثاني الذي استدلوا به: حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بأس أن تنتفعوا بإهاب الميتة إذا دبغ وبالشعر إذا غسل)، فنقول لهم: الرد عليكم في هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: هذا الحديث ضعيف؛ ففيه راويان مجهولان، والقاعدة تقول: الأحكام فرع على التصحيح، والحديث ضعيف.
الوجه الثاني: أنه وإن كان صحيحاً فالرد على الاستدلال به من وجهين: الوجه الأول: نقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انتفعوا بالجلد بعد الدبغ وبالشعر بعد الغسل) دال على أن الشعر فيه نجاسة ويطهر بالغسل، فيكون هذا لنا وليس علينا، لكن يمكن أن يطهر بالغسل.
وهذا الأصل إلا ما دل الدليل على خلافه، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوا الإناء الذي ولغ فيه الكلب)، وقال: (اغسلوا بول الأعرابي)؟ فلما أمر بالغسل دل على النجاسة.
الوجه الثاني في الرد عليهم: نقول: إذا قلتم بالحديث: (فانتفعوا بالشعر بالغسل)، فأنتم أبطلتم الاستدلال بعموم آية: ((وَأَشْعَارِهَا)) فهي عامة في الغسل أو بدون غسل، بعموم الآية وأنه يمكن أن ينتفع بالشعر دون الغسل، فإما أن تأخذوا بالآية، أو تأخذوا بالحديث، ويمكن أن يردوا علينا برد ثان، ويقولون: نحن نأخذ بالآية والحديث، نأخذ بظاهر الآية، فهي تصرف الأمر في الحديث من الوجوب إلى الاستحباب، فإذا صرف الأمر إلى الاستحباب رجع الأمر على أنه على تأكيد الطهارة، لكن نحن نقول لهم: الحديث ضعيف فلا دلالة لكم فيه، والأمر الثاني: الغسل يدل على النجاسة وهذا هو الأصل.
أما الرد على الحديث الثالث: الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما حرم أكلها)، فنقول: الرد عليكم في هذا الحديث من وجوه: الوجه الأول: استدلالكم بمفهوم المخالفة في حل الانتفاع والعظم والعصب سوى الأكل، نقول: المفهوم خالفه المنطوق وهو أنه حرم بيع الميتة للنجاسة، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة:173].
وإذا خالف المنطوق المفهوم قدم المنطوق على المفهوم باتفاق علماء الأصول.
الوجه الثاني من الرد عليه: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم أكلها)، السياق والسباق من المفسرات والمقيدات، قال علماؤنا: السياق محكم، يعني: السياق هو الذي يبين لنا مراد النبي من الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم مر فوجد الميتة فقال لهم: (انتفعوا بها، فقالوا: هذه ميتة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما حرم أكلها -ثم بين بعد ذلك- قال: هلا انتفعتم بإهابها)، أي بعد الدبغ، وقال: (دباغه زكاته).
إذاً: هذه دلالة من النبي صلى الله عليه وسلم في السياق نفسه أنه تكلم عن طهارة الجلد بالدباغ، فالسياق هنا محكم، وسياق حديث ابن عباس كان في الدباغ ولم يتكلم لا على عظم ولا على شعر ولا على عصب، ولذلك يكون الأكل محرماً عموماً في الجلد وفي غيره فكأنه يقول: الجلد لا يؤكل، لكن يمكن أن تنتفع به بعد أن تطهره بالدباغ.
إذاً الحديث سياقه في دباغ الجلد ولم يتكلم بإشارة ولا بتلميح عن شعر ولا عن عصب.
فإذاً: النتيجة أن نقول: هذا الحديث ليس نصاً في محل النزاع، وليس لكم أن تستدلوا به.
ومن أدلتهم أنهم قالوا: الشعر جزء من الميتة، وأنتم اتفقتم على أن الميتة نجسة، فالجزء يأخذ حكم الكل، فقالوا: نعم، نحن معكم على التأصيل الكلي بأن الشعر جزء من الكل، والجزء يأخذ الحكم العام، لكن نقول تقييداً لهذه القاعدة: إلا ما دل الدليل النظري على التفريق، ألا وهو أن الشعر لا تحل فيه الحياة؛ لأنه لا يشعر بألم إذا قص، قلنا: إن الحياة تعرف بوجهين: الوجه الأول: الألم، والوجه الثاني: النمو، والشعر ينمو، والنمو علامة الحياة، فلما سمعوا ذلك سكتوا، فقلنا: هذا رد عليكم، إذاً: الشعر تحله الحياة، والدلالة على ذلك النماء، فإن كانت تحله الحياة فبالممات يكون نجساً؛ لأن الحياة لازمة للطهارة والممات لازم للنجاسة، وهذا الرد على الحنابلة والمالكية.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: أما الميتة فهي لا تحرم إلا بالدم.
وهذا كلام مردود عليه فلو سكبت هذا الدم ونظفت الميتة كلها فيمكن أن تأكل اللحم؟ والعظم إذا نظف من الدم فهل تستخدمه أو لا؟ فهذا باطل لا يصح؛ للأدلة التي سردناها كلها.