كل نجاسة وقعت في الماء الكثير وغيرت له طعماً أو لوناً أو رائحة فقد نجسته, وإن كان قليلاً ولم تغيره فقد نجسته أيضاً, إلا النجاسة اليسيرة المعفو عنها, فإذا وقع الذباب على شيء نجس ثم طار ووقع على ثوب فإنه لا بد أن يكون قد حمل من النجاسة على الثوب، فإذا دقق المرء النظر في الثوب لن يجد علامة للنجاسة, وهذه نجاسة غير مرئية، فهل يصير الثوب بذلك نجساً لا بد من غسله؟ أيضاً هل الماء إن كان أقل من قلتين ووقعت الذبابة على هذا الماء فهل يصير بذلك نجساً أم لا؟ ففي المذهب ستة أقوال في هذه المسألة، فمنهم من يفرق بين الماء والثوب, ومنهم من يقول بالنجاسة على الإطلاق، ومنهم من يقول بالطهارة على الإطلاق.
والقول الراجح من المذهب هو أن الذباب إذا وقع على الماء أو وقع على الثوب فالثوب طاهر والماء طهور، والدليل على ذلك أدلة كلها نظرية تستقى من أدلة أثرية منها: قاعدة اليسير يعفى عنه, وهذه القاعدة مستقاة من مقاصد الشريعة، فلو أمرناه بغسل الثوب الذي وقع عليه الذباب، فقد ألحقنا به المشقة، لا سيما والذباب يقع في الثوب في كل وقت، والله عز وجل يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وأيضاً المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، ولو أمرنا المكلف بإلقاء الماء الذي وقع عليه الذباب أتلفنا الماء وإن أمرناه بغسل الثوب شققنا عليه، والله جل وعلا يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، وهذا مما عمت به البلوى, فالمسألة كلها دائرة على رفع الحرج، وعلى أن المشقة تجلب التيسير، ولذلك قال العلماء: يغتفر في الفرع ما لا يغتفر في الأصل، واليسير يغتفر، فمثلاً وجد 1% من الكحول في الطيب والباقي كله روائح فنقول: هذه النسبة تغمر في هذه الكثرة، بل تتفتت في هذه الكثرة، فيغتفر اليسير، فالصحيح الراجح أن نقول: هذه النجاسة نجاسة يسيرة تغتفر، وهذا ما مال إليه النووي وغيره، فاليسير من النجاسات التي لا يراها الإنسان بطرف عينه تغتفر، ولا يكلف المرء بغسل المحل.